aziz.alassa@yahoo.com
يعتبر الوقف أحد الأسس والقواعد (الصلبة) التي قامت عليها خيمة الإسلام الذي ظلل البشرية جمعاء بالخير العميم؛ لما للواقفين من سمات وخصائص تتميز بالإيمان في أفضل تجلياته: ما صدق به القلب ونطق به اللسان وعملت به الجوارح. وقد أصبح الوقف (مؤسسة) تشكل أحد المرتكزات الأساسية التي اتكأت عليها الحضارة التي جوهرها الإسلام دينٌ وعقيدةٌ. ويعود ذلك إلى أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان أول من أوقف في الإسلام، عندما وقف الحوائط السبعة التي أوصى بها إليه "مخيريق/ اليهودي".( )
أما فلسطين؛ فقد أنعم الله عليها بنعمتي الإسراء والمعراج، والفتح العمري؛ مما عزز مكانتها الدينية وجعلها في بؤرة الحضارة الإسلامية، ومحط اهتمام كبير من قبل الخلفاء والقادة المسلمين على مرّ العصور. ففي فترة الحروب الصليبية، وما بعدها حتى مئات السنين، اهتم العرب والمسلمون بفلسطين اهتماماً كبيراً، اتخذ الأشكال الآتية( ):
1. الإنتاج الأدبي-الديني، باسم "كتب الفضائل"؛ الذي ركّز على القدس وفضائلها، مما أبرز الأضرحة والمقامات والمزارات الإسلامية في أنحاء أخرى من فلسطين.
2. المنافسة بين السلاطين والحكام والأمراء المسلمين وكبار القوم الأثرياء، في بناء المؤسسات العامة، كالمدارس والرُبُط والزوايا والأنزال والسبل والمستشفيات والحمامات، وأوقفوها جميعاً، وخصصوا للإنفاق عليها من عوائد المزارع والمتاجر الأموال الوفيرة.
وقد أدى هذا الاهتمام إلى انتشار الأوقاف على أرضها، بشكل مكثف، حتى أضحى 16% من مساحتها الكلية وقفا خيريا؛ لدرجة أن هناك قرى بكاملها هي وقف خيري، ومن أشهر الأوقاف في فلسطين: وقف بيت المقدس، ووقف تميم الداري، ووقف خليل الرحمن، ووقف أحمد باشا الجزار ووقف النبي روبين .
منذ ما قبل النكبة سعت الحركة الصهيونية، إلى السيطرة على أملاك الشعب الفلسطيني؛ عن طريق التحايل، وباستخدام كبار الملّاك والسماسرة العرب، فانتقل حجم ممتلكات اليهود من (620) ألف دونم في العام (1920)؛ كأي ممتلكات لأقلية تعيش في فلسطين، إلى (مليوني) دونم في العام 1948، كما يأتي( ): 1) 665 ألف دونم، حصل عليها اليهود بمساعدة مباشرة من حكومة الانتداب البريطاني، 2) 606 ألف دونم، اشتراها اليهود من إقطاعيين لبنانيين وسوريين و3) 300 ألف دونم، مجموع ما اشتراه اليهود من فلسطينيين( ).
الأوقاف الفلسطينية في العام 1948 وما بعده:
عند النكبة (في العام 1948)، حيث مكن الاستعمار البريطاني اليهود من السيطرة (التامة) على 78% من أرض فلسطين الانتدابية (في حين أنه كان في حيازة اليهود 7,6%، و10% يقع في تصرف الانتداب البريطاني)، دمر الصهاينة مئات من القرى والمدن الفلسطينية، وأزالوا أغلب التراث المعماري العربي: الإسلامي والمسيحي عن وجه الأرض، ضمن سياسة تهويد الجغرافيا والسكان والتاريخ، وفق موازين قوى الغاب وشهوة المستكبرين للسيطرة على موارد الآخرين وثرواتهم ومقدراتهم واستعبادهم وتدمير تراثهم( ). وبذلك انتقل الصهاينة من (امتلاك!) الأراضي والعقارات وغيرها عن طريق التحايل فقط إلى استخدام القوة (المفرطة) في السيطرة على كل ممتلكات الفلسطينيين على أرضهم.
وكانت نسبة الأوقاف الإسلامية من الدولة-الجنين حوالى 20%، تشمل: أراضي، ومساجد، ومدافن وغيرها من الأملاك، فقامت بمجموعة من الإجراءات لضمان السيطرة التامة عليها( ). بأن تعاملوا "بشراسة" مع الأوقاف الإسلامية، دون غيرها من أوقاف الديانات الأخرى، بما يضمن عدم قدرة المسلمين على تحقيق أي حالة (حراك) مناوئ للاحتلال. واستندت تلك الإجراءات إلى الأبعاد (الأسس) الآتية( ): 1) البعد التدميري؛ باصطناع القوانين التي تحول دون الاهتمام بالأوقاف فأدى هذا إلى دمار العديد من المؤسسات الوقفية المختلفة، كالمقابر والمساجد وغيرها. 2) المصادرات و3) تحويل الأوقاف إلى مناطق أثرية سياحية.
لقد كان في فلسطين المحتلة في العام 1948 (2500) مكان مقدس، ولم يبقَ منها سوى (200) موقع مقدس فقط، تعتبر ملكاً لدائرة (أملاك إسرائيل!)( )، كما تشير الإحصائيات إلى أن الاحتلال هدم حوالى (400) مقبرة، ودمر حوالى (1500) مسجد، في حين أن باقي المساجد والوقفيات الإسلامية الأخرى تعرضت للانتهاكات بأشكال مختلفة ومتعددة، منها، مسجد العباسية (قضاء عكا) الذي تحول الى حظيرة للأبقار( ). أما على مستوى الأرض؛ فلم يتبق من الأرض لفلسطينيي-1948 سوى 3%، مسموح لهم بالبناء على ثلثيها، فقط؛ في حين أن الثلث المتبقي معرّف بأنه أراضٍ زراعية لا يمكن البناء عليها ( ).
الفلسطينيون يتحدون الاحتلال وبطشه:
على الرغم من قوة الدولة القمعية الطاغية، ورغم حالة الإنهاك التي أصابت أهلنا فلسطينيي-1948، إلا أنهم كان استمروا في المطالبة بمنح نظام الأوقاف مقداراً من الاستقلال الذاتي، مما أدى إلى أن ترضخ حكومة الاحتلال بإدخال المزيد من التغييرات إلى أساليب سيطرتها على الأوقاف الإسلامية. وقاموا بجملة اعتراضات تركزت في ثلاثة مجالات أساسية، هي( ):
أولاً: الاعتراض على وضع أراضي الأوقاف تحت قانون أملاك الغائبين.
ثانياً: الاحتجاج على سيطرة الحكومة على مُدخَلات الأوقاف والتعيينات، مما يعني تدخلاً في شئونهم الاجتماعية، كما يُخضِع تراثهم وعاداتهم لموافقة الحكومة.
ثالثاً: أعربوا عن قلقهم إزاء تعرضهم للتمييز؛ ففي حين أنهم محرومون من السيطرة على أملاك أوقافهم، ومدارسهم، ومحاكمهم الشرعية، كانت الطوائف الأخرى (المسيحية، والدرزية، والبهائية) تسيطر على أوقافها إلى حد كبير.
ثم أخذ هذا الضغط يأخذ طابعاً جماهيرياً مصحوباً بإعلام مساند، مثل:( )
1) في البدء كانت اعتراضات المسلمين تتخذ ضد سياسات الدولة، على شكل المعارضة الكلامية ومحاولات الإقناع، ثم مقالات صحفية. كما جرت محاولات لتأليف لجنة وطنية لتنسيق الجهود؛ كي يُفرج عن أملاك الأوقاف، وفي أواخر العام 1954 عُقِد مؤتمر في عكا لهذا الغرض.
2) ساند بعض المسيحيين، كالمحامي "الياس كوسا" الذي نشر مقالة في العام 1952 في صحيفة جيروزالم بوست، أشار فيها إلى أن إفراج الحكومة عن أملاك الأوقاف يقلل من اعتماد الفلسطينيين على معونات الدولة.
3) عندما فشلت الجهود السلمية، انطلقت تظاهرات شعبية ضد سياسات الدولة، كما جرى من معارضة عنيفة-صاخبة عند بيع مدفن عبد النبي في يافا.( )
4) في العام 1961، انعقد المؤتمر الإسلامي الأول في عكا، والذي أهم ما فيه أنه عارض قانون القضاة الشرعيين لأنه اعتداء صارخ على حقوق المسلمين واستخفاف بمعتقدات دينهم وشرعهم الحنيف،( ) وطالب بتحرير الأوقاف الإسلامية.
عندما حلت النكسة في العام 1967، واستُكمِل احتلال ما تبقى من فلسطين، توفر لمسلمي فلسطين-1948 إمكانية الوصول إلى المؤسسات التربوية، ذات العمق الديني مما فعّل التربية الدينية في نفوسهم، فظهر منهم قادة تمكنوا من الوصول إلى مستوى متقدم من "أسلمة" مجتمعهم، فظهرت الحركة الإسلامية بين صفوفهم، التي (أججت) حالة من الاندفاع الفردي والجماعي لحماية ما تبقى من الأوقاف الإسلامية ضمن جغرافيتهم، وهي تنظر إلى الأوقاف والمقدسات من خلال ثلاث دوائر متكاملة، هي( ):
أولاً: الدائرة العقدية: التي تنظر إلى أن أرض فلسطين هي أرض الأنبياء، وأنها القبلة الأولى، وإليها أسري برسول الله (ص)، كما أن إسلامية فلسطين لا تزول باحتلالها.
ثانياً: الدائرة الوقفية: فإن أرض فلسطين كلها أرض وقفية، وأن وقفها يُقسم إلى: وقف أميري، ووقف ذري ووقف خيري عام.
ثالثاً: الدائرة السياسية: فانتهاك الأوقاف والمقدسات ومصادرتها وطمسها لا يلغي مطلقاَ قدسيتها وإنما، وفقاً للقدرة والطاقة (فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها)، وتبقى الأوقاف والمقدسات الإسلامية تشكل جزءاً أساسياً، من الهوية الإسلامية لفلسطين.
ووفق هذه الدوائر الثلاث، فإن الحركة الإسلامية تنظر إلى الأوقاف الإسلامية على أنها الجزء الحي الذي يؤكد وجود فعل حضاري إسلامي على أرض فلسطين، والواجهة الحقيقية التي تحفظ حق عودة اللاجئين والمشردين. ففي أوائل العام 1976 تأسست في حيفا جمعية المبادرة الإسلامية، التي وضعت نصب عينيها المحافظة على المقدسات الإسلامية والآثار التاريخية والمطالبة بتحرير الأوقاف الإسلامية وتسليمها إلى هيئة إسلامية منتخبة؛ تضطلع بإدارتها (بأمانة)، وتهتم بشئون المسلمين الاجتماعية والثقافية( ).
ولتنشيط دورها على الأرض، قامت الحركة الإسلامية بإنشاء "مؤسسة الأقصى لرعاية المقدسات الإسلامية"، للمساهمة بشكل فاعل في الدفاع عن المساجد في فلسطين، ونجحت في إظهار محاولات الاحتلال المتكررة ضدها، ووفق منهجية علمية تمكنت من الحفاظ على الأوقاف والمقدسات، وإعمار الخراب فيها، ليشكل المنهج العلمي للحفاظ على الجذور، وطبقته قولاً وعملاً وإعلاماً وشعاراً وسلوكاً وتربية وأدباً وهوية، وبادرت بالسعي الدائب لتحريرها. وبدأت المؤسسة بالعمل في مشاريع الإعمار والصيانة منذ عام 1991( ).
الخاتمة
منذ اللحظة الأولى التي وطأت أقادم المستعمرين البريطانيين أرض فلسطين، قاموا باستباحة جغرافيتها وتاريخها، وساعدوا على تهويدها. وبعد النكبة فرضت الحركة الصهيونية حالة من الإرهاب، باستخدم القوة المفرطة في وجه من تبقى من أهل فلسطين الأصليين، فتمكن من السيطرة على أكثر من90% من الأوقاف الإسلامية.
وعلى الرغم من هذا كله فإن هناك من أبناء شعبنا من استطاع النهوض، واستجمع قوى الجماهير، ووحدها في مواجهة الإجراءات الاحتلالية، وتمثل ذلك في الحركة الإسلامية التي انبثقت بعد نكسة العام 1967، فبدأت وليداً في السبعينيات، ونمت وترعرعت إلى أن اشتد عودها في الثمانينيات والتسعينيات، فانطلقت، بقوة وبإرادة صلبة، نحو إنقاذ ما تبقى من الأوقاف، والبحث عن تلك الأوقاف التي قام الاحتلال الصهيوني بـ (استئصالها) من جغرافية فلسطين، وذلك بالاستناد إلى ما هو موجود في السجلات وما تعتمر به ذاكرة الأجيال الفلسطينية التي توارثت المعلومات حولها.
بذلك؛ نستطيع القول: إن ما قام به أبناء شعبنا الصامد المرابط في فلسطين المحتلة-1948، أشبه ما يكون ببذرة اتكأت عليها صخور صلبة-قاسية، فتمكنت من اختراقها، والنفاذ بين شقوقها، حتى وصلت إلى حيث الإضاءة والأكسجين؛ فنمت وكبرت واشتد عودها لتعود شجرة باسقة، أصلها ثابت، في أرض فلسطين، وفرعها في السماء يظلل الطريق للأجيال القادمة لانتزاع حقهم في العودة إلى أرض الآباء والأجداد مهما طال الزمن.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 3 تشرين ثاني، 2014م
نشر في مجلة الإسراء، العدد 119، ص: 69-76
إرسال تعليق Blogger Facebook