صابرين فرعون: تُظلّلُ قُلوبَنا بِنصوصٍ هادئةٍ.. رُغْمَ العاصِفَةِ!! قراءة: عزيز العصا

صابرين فرعون:


صابرين فرعون؛ فتاة في مقتبل العمر، تكتب، ثم تكتب، ثم تكتب؛ لكي لا تدع للدموع والآلام والعذابات متسعًا من الأثر والتأثير. تحاول، دومًا، لملمة شعث واقعها، فترمي بمرارة حياتها اليومية في معصرة الكتابة لتنتج لنا، جميعًا، أفكارًا جميلة ونصائح غنية ورؤى تنبض بالمحبة والنظرة الإيجابية إلى الحياة. هذا هو تقديمي للكاتبة "صابرين فرعون" التي سماها الفنان المسرحي غنام غنام "عناة". أما الكتاب، قيد النقاش، فهو بعنوان "ظلال قلب"، صادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع للعام 2015، يقع في (117) صفحة من القطع المتوسط.
وقد أردت، من تقديمي هذا، أن أبلغ القارئ الكريم، أن هذا الكتاب هو لؤلؤة؛ تم التقاطها من عمق المحيط الهادر، الذي تسعى حيتانه إلى ابتلاع (صابرين)، وكل من هو في ظروفها. لذلك؛ فإنه يسعدني أن أصطحبكم بالتجوال بين تلك النصوص، لكي نناقشها، بسمينها وغثّها، وبما لها وما عليها. لأن الكاتبة "عناة" أصرّت عليّ أن أعلن، على الملأ، ما على تلك النصوص وأن لا أخفيه وسط فرحي بباكورة إنتاجها. وهذا الطلب (بإلحاح) يضيف إلى "صابرين" خاصّية أخرى، وهي "أنها ترفض التواري خلف الماكياج الخادع؛ وإنما تعيش الحقيقة كما هي؛ بلا تجميل".
نحن بصدد مجموعة نصوص تتألف من (43) نصًّا، توزعت على قسمين رئيسيين، هما: "وطن ضائع"؛ ويتألف من (14) نصًّا، و"آيات الغيم"؛ ويتألف من (29) نصًّا.
أبلغتنا "صابرين"، منذ السطر الأول، أنها تكتب "لكي "يبرأ الجرح ولتظمأ الأرض ولنبقى على قيد الحلم"، وتودعنا في السطر الأخير بالقول: يتوقف القطار (...) كي ينزل المسافرون ويصعد آخرون ليقعوا في فخ الغرباء. وهذا يعني أننا أمام نصوصٍ بحاجة إلى القراءة، وإعادة القراءة؛ لكي نستخلص منها العصارة التي أرادتها لنا الكاتبة. وبعد القراءة المتمعّنة، وجدت أن أبرز المرتكزات التي تتكئ عليها نصوص "ظلال قلب" لكاتبته "صابرين فرعون"، تتمثل فيما يلي:
أولاً: الوطن والقضية حاضرة في الغالبية العظمى للنصوص:
- فقد استهلت نصوصها بعنوان "عرس الحرف"، الذي تعيد فيه مسميات فلسطين إلى جذورها الكنعانية، وهو "رسالة لكل من تتوق روحه إلى أرض كنعان".
- في النص رقم -31- تعيد نصًّا، بعنوان "رسائل كنعانية" تصف فيه مرحلة الخداع والتزوير التي مارسها العدو على أرض فلسطين، بقولها: "عوى ذئبٌ.. وبحركاته البهلوانية// صدقة الجمهور عندما ألقى برأسه على صدر الغجرية..// رخيمٌ جاء صوت الكذبة..". وفي نصّ "وطن" تنعت الاحتلال بالغول وتصف بطشه على هذه الأرض، فتقول: "قد جاء الغول// غول المدينة المتحضر..// يفتك.. يزني.. يقتل.. يغتصب". إلا أنها تعود لتبث الأمل في النفوس، وتؤكد على حتمية انتصار الإرادة الحرة المقاوِمة على الأعداء، بقولها: "صارعت الطفلة شرنقتها وخرجت للحياة من جديد// فيختفي البيادق// وتتعطر الأم بمسك الشهيد وينهمر المطر..".
- وفي "لحنٌ ناقص" تدخلنا فيما يشبه "الملحمة" عبر خمس مقطوعات، باللهجة الفلاحية، تعبر عن الوجع الفلسطيني في الذكرى السادسة والستين للنكبة، تذكر فيه "البيدر" و"العكال" و"الحنّون" و"الزيتون" و"النعنع" و"الفرس" و"الأرض"، والشروق والحلم والعودة.. وفي كل ذلك، أرادت "صابرين" البوْح بأن الشعب الفلسطيني لن ينسى جذوره، مهما حاول المحتل تزوير المكان والزمان والشجر والحجر.. ومما قالته: "ما يهزك السجان// وما يهدك الوقت"..
- في "وطن"، تصف مرحلة التراجع و"جفاف" بستان الثورة، فتقول: "أطفال الحجارة كبروا// ولكن الثورة ماتت// والبستاني ما عاد يروي الأزهار..". كما أنها تدين كل من يقف متفرجًا؛ يشجب ويستنكر ما يجري بحق شعبنا، مؤكدة أنه لن يعيد لهذه الأرض حضارتها ونضارتها غير التحدي والصمود، فتقول في "عرس الحرف": "يلعن كل من يستنكر ويشجب// فهذي الأرض// لم يخلقها الله// لترتدي// إلا الدم// وأنفاس الياسمين". وفي "رهانٌ خاسر" تصف، على مدى ثلاث صفحات، حالة النظام الرسمي العربي، الذي يأكل بعضه بعضًا، ويتآمر على فلسطين-القضية، ومما تقوله: "ذات صيد// خانت الرؤوس بعضها// وتعثر الكل في بعضه// ونفرت الرؤوس من بعضها". وفي "ذات ندم" تقول: "عارٌ عليَّ// وقد صدَّقتُ من يقتل البلاد// في حفنة صور..". في ذات الوقت الذي ينتمي أبناء فلسطين لأمتهم ولعمقهم، ففي "موانئ"، تقول: "كل العرب أوطاني// يتنهد الجريح// عند الموانئ الغارقة بالرثاء..".
- في "قبلات الياسمين" تدعو "صابرين" إلى عدم الركون والاستسلام، وتحرض على الدفاع عن الوطن حتى فك قيوده، إذ تقول: "لا تخلع كوفيتك..// ولا تنزل عن ظهر الفرس..// صهيلها يلثم دمعًا// احتبسته سحابة صيف ذات عناق.."، وفي "ثورة" تستذكر مجزرة دير ياسين، بوصف رائع، ومما تقوله: "ثار الحجر..// رقصت ملائكة السماء..// ونادى الشهيد الأحياء: حي على الجهاد...".
- أما الجواسيس ومصائرهم، فقد أبدعت "صابرين"، بقولها في "عثرات": ".. ويتواطأ مع الذئاب// التي كشرت عن أنيابها// وأبدت استعدادها لمساعدته// وأجمعت أن يكون هو وجبة العشاء..".
ثانيًا: تدافع عن المرأة، تتحدث عن وفائها وتصف الظلم الواقع عليها:
- ففي "مقهى البوْح" تشير إلى يوم المرأة العالمي وعيد الأم اللذان يصادفان في شهر آذار من كل عامٍ، فتقول في "ابنة آذار": "على كتف الشهيد// تطبع قبلة// سيدةٌ من بركان// أمام الدار بطاقةً// تعايد فيها الأمهات// وطبيبات الروح". وفي وصفها للظلم الواقع على المرأة في مجتمعنا، تقول في "مجزرة العشق": "في كل حرف من اسمها// تزم جرحها// تلك الطفلة// وتسير// بقدمين متشققتين// تسابق الريح..".
- في أكثر من نصّ نجد أن "صابرين" تصف فلسطين بالمرأة وتصف المرأة بفلسطين؛ فالمشترك بينهما الظلم والخداع وشعارات الشجب والاستنكار في مواجهة عملية (الذبح) التي تتعرض لها عبر العصور. ففي "نداء الغريق" تقول: "ذُبحت أنوثتها// وعبأ// حراس المعبد// دمها// في محابرهم// يكتبونها قصيدة عذراء// إلا من شرف الإنسانية..".
- وفي الوفاء، نجد أن المرأة / الأنثى هي الوفية في علاقتها مع الرجل/ الذكر. ففي "كحلٌ عربي" تؤنث الشمس وتذكّر القمر، ثم تنشئ بينهما علاقة جميلة، فتقول: "قدّت الشمس ثوب أنوثتها// تعاهد القمر// تمنح قلبها// قصائد من قُبل..". وفي "معادلة الشوق" تعود الشمس بطلة للمشهد، حيث: "قصّت الشمس أنوثة ضفائرها// وألقت للنهر// ينشد مواسم القمح// فاحترقت الأوطان..".
- وفي "حكايتي والنوم" يتجلى وفاء المرأة حين يكون لـ "روحها" أجنحة تقذفها إليه.. وفي "ماءٌ عكر" توظّف الأم تريزا في نصّها في إشارة منها لتحدي المتشدقين بالإنسانيات، فتقول: "فقلبه يسكن آيات الغيم// منذ لقمت الأم تريزا// أفواه الشعراء// وأقسمت بلحنٍ مقدس على الانتقام...". وفي "شريعة"، نجدها تمتعنا بما يشبه الملحمة تصف فيها تعدد الزوجات، وفق تراجيديا نهاية زوجة "عملت بنصيحة والدتها// حين أخبرتها// أن// سر الزواج الناجح// هو أن تملأ معدة زوجها// بما لذ وطاب.."، لينتهي الأمر به وهو يقول: "حبيبتي..// هذه طبخة أشتهيها منذ زمن..// والرب شرع لي مثنى وثلاث ورباع...".
- وحول المؤامرات والخداع والتضليل والغدر الذي تتعرض له المرأة، خصصت نصّين كاملين لذلك، أحدهما بعنوان "ضحايا" والثاني، بعنوان "خيانات". ففي "ضحايا" تصف من "يسوق الرجولة// على قطيع الإناث"، والذي سيكتب على قبره: "مات في نوبة عشقٍ// وكانت له من الضحايا// مليون شاةٍ وناقة!!!". وفي "خيانات" تبدع في وصف مسلسلات الأزواج المخادعين، فتصف "تلك الزوجة المسكينة..// كانت تنتظر عودته// ولم تدرك// أن قلبه حقيبة سفر..."، ثم تتجلى في وصف الفاسقين والمنافقين وهي تصف "الإمام الخطيب" الذي يدعو إلى غض البصر، وعندما يكون في سرير "بائعة الهوى" يدعو ربه "أن يفيض عليه بالنعم..". ويتضح من تلك الصور أن "المرأة-الشريرة" هي الجزء الآخر من مشاهد الشيطنة التي يمارسها الرجال.
- وفي "ضحايا" تصف قوة المرأة، بقولها: "في الغار امرأة// من بركان..// تعانق البندقية// وتبخل بالنيران.."
ثالثًا: النصوص، في غالبيتها، مشبعة بالبلاغة والرمزية والصور التشبيهية الجميلة:
- ففي "بوح الفنجان" تطل علينا بقولٍ مشبع بالرمزية والبلاغة، التي تجعل القارئ يتجه في أكثر من اتجاه في تفسيره لما يقرأ، إذ تقول: "قشر التاريخ صبرنا// ولا نزال نرقع// شروخ أرواحنا// بحلم..". وفي "كحلٌ عربي"، تقول "صابرين": "سأدق الكحل في عينيّ القصيد// كي لا يصير الحب خوفي// وأنجب طفل قلبي المدلل..".
- وفي نصّي "أمنية" و"ماءٌ عكر"، تتجلى "صابرين" في مقطوعات جميلة مشبعة بالحركة والفعل والحوارات وثورة المرأة على الظلم، ومن أجمل الصور التي التقطتها، قولها: "يتنهد النص مني// ويواصل العزف على برزخ انتماء// كي لا تتشابك الأصابع أربعًا// ويبقى الخامس منفيًّا عن اليد.." (ص52). وفي إشارةٍ إلى من يعيش وسط النعيم والخيرات ويُحرم منها، تقول في "دمعة": "مجنون// أحصى عدد حبات المطر// فما زاده الماء// إلا عطشًا..". وفي "تانغو شرقي"، تضيف بلاغة أخرى في الوفاء والبقاء على العهد، فتقول: "فلماذا الغياب// وأنت المطر الذي يسقي// بذور الحلم ليصير حقيقة؟!!". وفي نصّها الأخير، تعيد "صابرين" وضع الأمور في نصابها، بقولها: "الله الذي تحلف به راقصات المعبد، ليس الله الذي نبسمل ونحوقل باسمه" (ص113).
وأكاد أجزم أن "صابرين" تجمع غالبية المحاور والمرتكزات السابقة في نصّها الأخير "لماذا الشحوب يا مدينة اللوز؟!"؛ إذ تتحفنا بالتذكير بكنعانية الأرض، وتعيد الأمل فينا بنصر قريب، كما تنبهنا إلى أن هناك مهاجرين يتركون "للغرباء وضع أساسٍ جديد"، مؤكدة أن "اللوز لا يعيش في غير التربة الأصلية".
خلاصة القول:
هذه هي نصوص "ظلال قلب" التي أظلتنا بها "صابرين فرعون"، فقد تجولت بنا مع نصوص مشبعة الفكر والأفكار التي أرادت "صابرين" أن يستقيها القارئ؛ ففيها المعلومة التاريخية، والحكمة، والموعظة، وتصوير الظلم (بمختلف أشكاله ومستوياته)، كما فيها عن الأمل والمستقبل الواعد في المحطة الأخيرة.
أما بشأن النصف الفارغ من كأس تلك الظلال، والتي أصرت "صابرين" على أن أبوح بها على الملأ، فإنني ارتأيت مجموعة مآخذ، لا بد من التوقف عندها، لتصويب الأمر في الطبعات القادمة لنفس المؤلَّف أو عند إعادة تجربة الكتابة، أولها: أن في النصوص أخطاءٌ، شكلية في غالبيتها؛ كعلامات التنقيط وتنسيق الفقرات، بخاصة النص الأخير الذي يستحق إعادة قراءته وإعادة ضبط إيقاعاته. وثانيها: أن اللغة الشعرية طاغية، في غالبية النصوص، ولنقل أن الكاتبة تقترب من الشعر بالنثر. وعليه؛ فتسمية "نصوص" لم تكن دقيقة، وأرى فيها "تواضعًا" من قبل الكاتبة؛ بعدم الالتزام بمجموعة شعرية تُضاف للمكتبة العربية.
في جميع الحالات والأحوال، نحن أمام كاتبة واعدة، ستكون ذات شأنٍ، إن استمرت صاعدة بنفس الوتيرة التي لمستها في نصوصها التي قَرَأْت.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 18 تشرين أول، 2014م
نُشِرَ في القدس المقدسية، بتاريخ: 19 كانون أول، 2014م، ص25
aziz.alassa@yahoo.com