لا شك في أن الأحداث الأخيرة، التي مرت بها القدس، جعلت القلوب تصل الحناجر لدى كل حرّ من أبناء الأمة عامة، وأبناء الشعب الفلسطيني خاصة, والمقدسيين على الأكثر خصوصية. فعندما استشعر المستوطنون، ومن خلفهم حكومتهم أن الشعب الفلسطيني منقسم على نفسه وأن الشرخ اخذ يمتد في الجسد الفلسطيني أفقيًا ورأسيًا, وأن الأمة لم تعد بخير (ولن تعود بخير على مدى السنين القادمة)، ولأن تلك الحكومة ضاغطة على الزناد لتنفيذ أجندتها الفكرية والأيديولوجية القائمة على هدم الأقصى الموجود منذ مئات السنين وإقامة الهيكل المزعوم-الموهوم، فقد اتخذ هؤلاء, مجتمعين، قرارهم الحاسم بتنفيذ أحلامهم المتخمة بجنون أيديولوجي، قلما مرّ على التاريخ نظيراً له. فكان ما كان من تصعيد في الإجراءات الإذلالية–التركيعية للمقدسيين فرادى وجماعات وتجمعات ومؤسسات.
إلا أنه في لحظة ما, انطلقت صرخة المقدسيين المدوية التي هزت أركان الكيان الإسرائيلي، ومن خلفه الداعمين لإسرائيل والمساندين لها والراعين (الممولين) لبرامجها وأهدافها الاستعمارية في المنطقة. إنها صرخة شعور المقدسيين بمرارة الواقع الذي يعيشونه وهم بلا ظهر ولا ظهر.
وعندما قدر لي أن أكحل عيني بالقدس وأهلها، يوم الجمعة الأخيرة (28/11/2014)، انتابتني مشاعر متداخلة؛ من الحزن والفرح. فقد وجدت فيهم التفهم, التام, لما يجري حولهم، وإدراكهم لحجم المؤامرة التي تستهدفهم؛ وجودًا وهوية. ويقود هذا الفهم والإدراك منبر المسجد الأقصى، المتكئ على الشارع المقدسي الذي يعج بالمفكرين والمحللين.
فقد اطل علينا خطيب الأقصى لتلك الجمعة/ الشيخ "يوسف أبو سنينة"، بخطبة صال وجال فيها في ربوع الإيمان، الذي تشكل القدس ومقدساتنا واحداً من معالمه, شارحًا ومبينًا "أنَّ الحربَ المسعورةَ التي تشنُها سلطاتُ الاحتلال على شعبنا الصابر المرابط, وبشتى أَصنافها وأَلوانها وأًنواعها, من قتلٍ ودهسٍ وهدمٍ، واعتقالات مُستمرة ومُداهماتٍ للبيوت؛ ومصادراتٍ للأراضي وإقامة المستوطنات عليها، وإبعاد المسلمين والمسلمات عن المسجد الأقصى, تتوجب منا وقفة جادةً وعلى جميع المستويات. ثم توجه "الخطيب-أبو سنينة" إلى أصحاب المسؤولية، مذكراً بقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:"لو ضاعت سخلة على شاطئ الفرات لخاف عمر أن يسأله الله عنها". أما العلماء؛ فذكّرهم بما يجب عليهم القيام به من البيان والنصح للجميع، وأن يقفوا موقف الرجال لأن الله حملهم الأمانة وسوف يسألوا عنها يوم القيامة.
يرى "الخطيب-أبو سنينة" أننا نحن؛ أهل بيت المقدس نعاني الأمرّين، ولكننا سنبقى الأوفياء والأمناء للبيت المقدس, والذي هو على التقوى مؤسس, سنبقى الغيورين والمرابطين والمدافعين حتى آخر نفسٍ من أنفاسنا فمهما اشتد الأذى واعتدى المُعتدي, سنبقى ممن ينطبق عليهم قوله تعالى: "كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ" (الفتح: 29)؛ فمهما قتلوا واعتقلوا, ومهما أسروا وعذبوا, ومهما هدموا وشرَّدوا, ومهما اقتحموا وداهموا وخربوا, سنبقى صامدين صابرين مرابطين محافظين. فأرضنا وقدسنا ومسجدنا أماكن مباركة والواجب علينا حمايتها من كل خطر داهم، فقد اختارنا الله للدفاع عنها نيابةً عن أمة الإسلام، فلنكن على قدر المسؤولية؛ فهي أمانة في أعناقنا وسوف نُسأل عنها؛ حفظنا أَم ضيعنا؟
وأما الشارع المقدسي؛ فنجده يشكل رديفًا وسندًا، بل ترجمة حقيقية لما قاله "الخطيب-أبو سنينة", فها هو المواطن المقدسي, نبيل دعنا, الذي يرقب ما يجري، ويقرأ في عيون المقدسيين الذين يزورونه يومياً للتزود بالصحف التي يحتضنها كما يحتضن أبناءه. فكأني به يتحدث نيابة عنهم عندما أشار إلى أن صرخة المقدسيين قد بثت عددًا من الرسائل, في كل الاتجاهات, منها:
1) أن المقدسيين هم الرقم الصعب في المعادلة، وأنه لا يمكن تجاوزهم في أي ظرف ومهما اشتدت قوة إسرائيل وغيرها ممن يستهدف عروبة القدس؛ بإسلاميتها ومسيحيتها.
2) رسالة ذاتية؛ تفيد بأننا أولى الناس، وأكثرهم قدرة، على تحقيق الحماية الحقيقية للمسجد الأقصى، ولمقدساتنا، ومجتمعنا، ومكانتنا، وكرامتنا الوطنية. وأنه لا يجوز لنا أن نستمر في إلقاء همومنا على كتف من "لا كتف له".
3) كشفت عمن هو قادر على تحمل المسؤولية. وهنا يتساءل: هناك اتفاقيات والتزامات دولية, فلماذا لا يتم تنفيذها لصالح شعبنا الذي أصبحت حياته مهددة في كل لحظة؟!
4) افتقار القدس والمقدسيين للقيادة القادرة على ضبط الأمور وتوجيهها في الاتجاه الصحيح؛ فلا تهدئة إن لم نهدأ نحن.
من جانبه، يرى "مصباح شبانة"؛ المقدسي الذي يغادر العقد التاسع من عمره، وهو القابض على مهنته منذ (80) عامًا، بتواصل وهو يتتبع الجرائد في الكشك، الخاص به، الرابض على الجهة اليسرى من مدخل المدرسة الرشيدية, فيقول: تعرضت فلسطين إلى مؤامرات وخيانات كبيرة وكثيرة، فلا رجاء لها إلا من الله.
بذلك؛ نجد المقدسيين، فرادى وجماعات، يلتفون حول قرارهم الوطني القاضي بالصمود ومواصلة المواجهة؛ كالسوار حول المعصم، وهم يبثون للأمة وللعالم أجمع، رسائل مفادها أنهم يشعرون بمرارة الخذلان والتخلي عنهم. ولكن لسان حالهم يقول ما يقوله خطيب الجمعة (يوسف أبو سنينة): إن الله قد اختارهم للدفاع نيابة عن الأمة. ومن استعان بالله فهو حسبه وهو وحده المعين عند الشدائد.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية
نُشِرَ في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 05/12/2014م، ص15
aziz.alassa@yahoo.com
إرسال تعليق Blogger Facebook