0

نشر في القدس، بتاريخ: 01/05/2015م، ص: 18
                                                         قراءة: عزيز العصا
ابتسام أبو ميالة؛ كاتبة فلسطينية ولدت بين النكبة والنكسة، صاحبة قلم خاص؛ لها منهجيتها وأسلوبها, صاحبة تجربة روائية أنجزت ثلاث روايات حتى اللحظة. أما العمل الأدبي الذي نحن بصدده فهو روايتها "رجال لا يعتذرون" الصادرة عن دار الجندي للنشر والتوزيع للعام 2014, الواقعة في (295) صفحة من القطع المتوسط, والتي تتوزع على خمسة فصول.
لكل فصل من فصول الرواية قضية رئيسية يسعى إلى سرد أحداثها، وتشكيل مكوناتها بما يخدم القضية الروائية الأساسية التي تدور، بشكل رئيسي على الصراع بين الخير والشر. وقد توزعت مكونات الشر في رواية "أبو ميالة" على المستوى الاجتماعي الداخلي الذي تدور رحاه داخل الأسرة الفلسطينية والمتمثل، بشكل رئيسي بالظلم الذي يمارس بحق المرأة-الزوجة من قبل الرجل-الزوج والظلم الذي تمارسه المرأة-الزوجة بحق من ينافسها على قلب الرجل-الزوج.
كما يظهر في هذه الرواية الشر الذي يمثله الاحتلال على المستويات كافة، ممثلًا بالأوجه المختلفة للإذلال والإهانة التي يتعرض لها المواطن الفلسطيني، أينما حل وارتحل على هذه الأرض، بخاصة عندما يدخل إلى القدس، وتوجت "أبو ميالة" شرور الاحتلال بما جرى بحق مخيم جنين في العام 2002؛ إبّان الانتفاضة الثانية التي هب فيها الشعب الفلسطيني، معبرًا عن احتقان متراكم منذ اتفاقية أوسلو الخادعة، في وجه زيارة شارون للمسجد الأقصى.
وفي ثنايا تلك الأحداث والصراعات يسعى الإنسان الفلسطيني إلى تحقيق أحلامه وطموحاته المتعلقة بالتعليم والتطور، ومواكبة روح العصر، كما يسعى إلى الاستقرار والزواج وتكوين أسرة جديدة. مما يعني انتشار ظواهر الحب والإعجاب، وما يصاحبها من قصص تنم عن الطبيعة الإنسانية التي يتصف بها الشعب الفلسطيني، وما فيها من الوفاء والقيم والمثل العليا.
أما من حيث البنية والسرد, فقد انطبق عليها شروط الرواية من حيث وجود خيط روائي يربط بين الفصول الخمسة، بوجود شخصية رئيسية وهي "سمر" وشخصيات أخرى؛ مساندة للشخصية الرئيسية ومتصلة بها على مدى مساحة واسعة من النص، وشخصيات أخرى ثانوية أتقنت "أبو ميالة" صياغتها بما يخدم القضية الروائية دون أن يترك أي فراغ فيها، بما جعل الرواية متماسكة وذات بنية واضحة المعالم كرواية تأخذ مكانها على رف المكتبة الفلسطينية بامتياز، بخاصة الفصل الخامس الذي وجدته وثيقة (شبه دقيقة)، تكاد تكون بالصوت والصورة، للمذبحة التي تعرض لها شعبنا في مخيم جنين على أيدي الاحتلال صاحب القوة المفرطة، وفي مواجهته شبّان لا يملكون سوى إرادة القتال والمواجهة.
وأما من حيث المعمار الجمالي، فقد كانت الكاتب موفقة على مستوى النصوص التي جاءت مباشرة وواضحة؛ ولا غموض فيها، موزعة على الفقرات بشكل متوازن ومريح للقارئ،  وإنما أتقنت الكاتبة صياغة الصور التي تجعل القارئ أمام ما يمكن اعتباره "الدراما المكتوبة"، كما يتمكن القارئ من قراءتها وفهمها وإدراك مراميها وأهدافها، أيًا كان عمره و/أو مستواه المعرفي والثقافي. إلا أن الأمر لم يخلُ من أخطاء إملائية ونحوية لا بد من التوقف عندها ومراجعتها، لكي تُبقي الرواية بكامل هيبتها ورونقها. 
وأما العمق المعرفي للرواية؛ فقد وجدتها ترتكز على المحاور والمرتكزات التالية التي شكلت الهيكل الفلسفي والفكري للرواية:
أولاً: صور الوفاء: لم تمر مناسبة إلا ويظهر فيها الوفاء بأبهى صوره مثل "ام العبد" التي تمثل رمزية المرأة الفلسطينية اللاجئة التي حرمت من حضن الوطن, فصمدت وجعلت من نفسها حضناً دافئاً حنوناً لكل من يلجأ إليها؛ حتى أنها هي التي تحملت قسوة السفر إلى العراق لإحضار الخالة نهلة لكي ترعى شئون الطفلة سمر وتحفظ لها كرامتها؛ بعد أن فقدت والديها.
كما أن هناك صورة أخرى للوفاء تتمثل بسمر التي بقيت وفيَّة لصديق الطفولة وليد "الذي فقد ذاكرته, بسبب الاحتلال وشراسته. ولعل أجمل تجليات الوفاء تتمثل في "خولة" التي ربطت مصيرها بمصير والدتها التي ترفض مبدأ توريث المرأة، والتي تخلى عنها الإبن المدلل والبنات المغلوبات على أمرهن عند أزواجهن. فقد أبدت استعدادها لأن تتحول إلى خادمة لقاطني ملجأ العجزة إكرامًا لها، كما اشترطت على العريس الذي انتظرته على أحر من الجمر أن تسكن والدتها إلى جانبها، وإلا فلا أسف على يرفض هذا الشرط.
ثانياً: الجغرافيا الفلسطينية حاضرة في الرواية، بخاصة نابلس وقراها الأربعين, ومكوناتها الحضارية وأسواقها وحاراتها. كما أنها، وفي أكثر من مناسبة أشارت إلى المدن والقرى المحتلة منذ العام 1948, التي بقي أبناؤها يتغنون بها ويحلمون بالعودة إليها مهما غلا الثمن، وقد حرص الأجداد على تذكير الأحفاد بتلك الأماكن وجمالها المنقطع النظير. كما كان هناك نصيب لمستشفى المطلع بالقدس، كمعلم حضاري بعمر يتجاوز المائة عام، الذي كان مقرًا للجيش التركي في الحرب العالمية الأولى، ثم شهد على ولادة المملكة الأردنية الهاشمية؛ عندما كان مقرًا لاجتماع وزير المستعمرات البريطاني مع الملك عبد الله لتسليمه شرقي الأردن (ص206).
ثالثاً: الرواية نسوية بامتياز: فهي بالإضافة إلى أن معظم شخصياتها، الرئيسية والثانوية، هي من النساء من جميع الأعمار (من الطفلة حتى الجدة)، تناولت ظواهر اجتماعية سلبية داخل الأسرة الفلسطينية، تتمثل بسلوك الأزواج الشرسين؛ الذين يعتدون على زوجاتهم بالضرب المبرح والإذلال والإهانة، لحد التسبب في الإجهاض وندب وجروح تترك أثرًا دائمًا؛ يبقى في جسدها مدى الحياة، وما يعنيه ذلك من هدر لكرامة المرأة وتجاوز لإنسانيتها وحقها في العيش الكريم (ص192).
ولكنه من المؤسف أن تلك الممارسات تتم في الأسر التي يتمتع الزوج والزوجة، معًا، بمستوى متقدم من التعليم و/أو غنية؛ أي أنه غير ناتجٍ عن جهل أو فقر. وبذلك؛ نجد أن "أبو ميالة" قد علّقت الجرس لموضوع متميز، لا بد من التوقف عنده بالتمعن والتشخيص والمعالجة.  كما لم تنسَ "أبو ميالة"  الإشارة إلى الزوجات الشرسات اللواتي يمارسن الظلم بأبشع صوره داخل الأسرة، سواء بحق الزوج من حيث الخداع والتسويف وعدم احترام قدسية الحياة الزوجية، أو بحق كل من (تعتقد) أنه قد ينافسها على قلب زوجها، حتى لو كانوا أبناءه كما حصل مع زوجة والد سمر؛ وكأنها تريد لهذا الزوج أن يعيش معزولًا عن العالم الخارجي سوى عالمها هي وعائلتها.
  رابعًا: الأغاني التراثية حاضرة في الرواية: ففي أكثر من مناسبة نجد أن "أبو ميالة" وظفت الأهازيج والأشعار والأغاني الشعبية، بما يعزز الهدف الذي تسعى إليه الرواية من حيث رفع مستوى القيم والمثل العليا في المجتمع الفلسطيني التي تحفظ للفرد مكانته ودوره في بناء مجتمعه والدفاع عنه، مهما غلا الثمن، كما تنادي بالتمسك الوطن السليب والتراث الذي تم اغتصابه وضياعه في غفلة من الزمن.     
خامسًا: مذبحة مخيم جنين: تستهل "أبو ميالة" الفصل الخامس والأخير، في روايتها هذه، بحوار بين الأجيال الفلسطينية المختلفة حول وطنهم الذي ضاع من حيث الأسباب والنتائج، فنجد أن الأجداد يذكّرون الأحفاد بأن هناك مؤامرة دولية التي تبنّت مقولة " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" (ص: 226) هي التي أدت إلى تشريد شعبنا وفقدانه لوطنه، وأن هذه المؤامرة مستمرة كما تم في صبار وشاتيلا (ص: 217).
ثم تُدخل القارئ فيما يمكن اعتباره "تفاصيل" ما جرى في مخيم جنين في العام 2002، والذي يتلخص في أن الاحتلال استخدم القوة المفرطة، بلا هوادة؛ فقد مارس جنوده القتل بلا رادع لقانون أو عرف أخلاقي، فأي بيت يعترضهم كان يتم إزالته أو تفجيره، وأي شئ يتحرك يتم إطلاق النار عليه. حتى أن هناك جثثًا بقيت في الشوارع متعفنة لم يجرؤ أحد على الوصول إليها وإكرامها بدفنها.
أما من الجانب الفلسطيني، فقد تمتع أبناء المخيم بقدرة على الصمود رغم ضيق اليد وعدم توفر الحد الأدنى من الإمكانيات، عندما كان الرد على الهجوم بالتماسك والتعاضد بين أبناء المخيم، من الأجيال كافة، عندما قاتل الجد إلى جانب الحفيد. كما حظي المخيم بقادة تاريخيين، كان أبرزهم الشهيدين محمود طوالبة وأبو جندل، اللذان تميزا بقدرات عالية على التكتيك العسكري والصمود الذي أفقد الاحتلال العديد من الجنود بأيدي المقاومين، بما يملكون من أدوات قتالية بسيطة، وحتى بأيدي الجنود أنفسهم من شدة الارتباك الذي أصابهم ما أفقدهم أعصابهم وجعلهم يقتلون بعضهم بعضًا؛ نتيجة أخطاء في تقدير الموقف العسكري.
الخاتمة والتعليق
أمضينا مع رواية "رجال لا يعتذرون" ونحن نعتقد أن العنوان مستمد من ظاهرة اجتماعية تتعلق بعناد الرجال في تعاملهم مع النساء، إلا أننا نكتشف في نهايتها أن "ابتسام أبو ميالة" قد اقتبست عنوانها من مقولة الجدة التي حرضت المقاومين من الشباب بعدم الاستجابة للجندي الاحتلالي الذي خاطبهم مهددًا، بقوله: ستعتذرون للدنيا لأنكم جئتم إليها"، وحينها قالت الجدة: "الرجال لا يعتذرون" (ص: 278). وتكون الجدة، في قولها هذا، قد وضعت تعريفها للرجل ولمعنى الرجولة، بخاصة في مواجهة الأمور التي تتعلق بالكرامة الشخصية والوطنية؛ الأمر الذي يتطلب العناد والإصرار والصلابة في الموقف، أيًا كان الثمن المستحق.
بقي القول بأن "ابتسام أبو ميالة" في روايتها هذه، إلى جانب وصفها للعلاقة الجدلية مع الاحتلال، قد وضعتنا أمام عدد من المواقف والمشاهد والقضايا الموصوفة أعلاه، وما فيها من مثل عليا وقيم الوفاء ترفع مستوى الانتماء للذات، بالإضافة إلى تلك الحوارات المشبعة بالإثارة، كتلك المتعلقة بالمشعوذين الذين يدعون بقدراتهم على معالجة المشكلات الزوجية، بالسحر والشعوذة، وما يرتبط بذلك من ابتزاز البسطاء. علمًا بأن تلك القضايا لا يعالجها سوى رفع مستوى الوعي بقدسية الحياة الزوجية، وأن المشعوذين ليسوا من الدين في شئ، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كذب المنجمون ولو صدقوا".
كما أنه لا يمكنني المغادرة قبل الإشارة إلى أن هذه الرواية، بعد إعادة مراجعتها، تشكل مصدرًا للمعرفة يمكن للناشئة من القراء الوصول إليها، بسهولة ويسر، كما يمكن للكبار الذين عايشوا الظواهر والأحداث التاريخية الموصوفة في هذه الرواية وخبروها أن يعيدوا النظر فيها بعد مرور تلك السنين. 
كما أوصي بضرورة ترجمة الفصل الخامس منها، وهو بصيغته الروائية هذه، إلى اللغات الأجنبية؛ لإطلاع العالم على ما جرى بحق شعبنا في غفلة من تواطؤ العالم مع الاحتلال الذي ليس له إلٌّ ولا ذمة. 
فلسطين، بيت لحم، العبيدية
17 آذار، 2015م






إرسال تعليق Blogger

 
Top