وليد الهودلي في روايته "ستائر العتمة":
ينتزع السرد الروائي من سلاسل الأسر
نشر في صحيفة القدس
المقدسية، بتاريخ: 16/10/2015، ص: 16
عزيز العصا
وليد الهودلي؛ فلسطيني
من قرية العباسية المحتلة في العام 1948،
من الذين تجرعوا مرارة النكبة، فكان نصيب أسرته العيش تحت صفيح مخيم
الجلزون بمدينة رام الله، وولد في العام 1960. امتشق العمل التنظيمي النضالي، فوقف
على المسافة صفر في مواجهته للاحتلال؛ عسكريًا وسياسيًا وفكريًا، وأمضى من عمره
(14) عامًا في معتقلات الاحتلال وزنازينه وسجونه. ولأنه يمتلك قلمًا سيّالًا، فقد وظّفه
في الكتابة في المجالات المختلفة، فكتب ما يحفظ السيرة والمسيرة التي مر بها، بما
لها وما عليها، ووثق بالكلمة والصوت ما جرى معه ومع غيره من معاصريه في أقبية
الاحتلال. فصدر له عدد من الروايات والمجموعات القصصية.
وأما
العمل الأدبي الذي نحن بصدده للأسير-الكاتب "الهودلي"
فهو روايته "ستائر العتمة: تسعون يومًا من
المواجهة الملتهبة" في طبعتها العاشرة، من إصدار المؤسسة الفلسطينية
للإرشاد القومي في العام 2015، وهي تبدأ بغلاف يحمل دلالات سجن يضم رجلين
ملتحييْن؛ يحمل أحدهما ما يشير إلى مصحف شريف، والآخر يمسك بقلم وورقة، وهما
يغرقان في زنزانة يشق ظلمتها شمس الحرية وهي تخترق الأسلاك الشائكة، التي يرفرف
فوقها حمامة بيضاء تقيهم حر الشمس الحارقة، وتعدهم بحرية وحياة آمنة مطمئنة.
وقد قدر
لي قراءة هذه الرواية، فوجدتها تقع في (176) صفحة من القطع المتوسط، تحتضن خمسة
عناوين هي: تقلبات زنزانة، ومقالب التحقيق، والزنزانة مرّة أخرى، وصفقة مغرية وفي
رحى السجن.
تشير العناوين
المذكورة إلى أن لهذه الرواية ثيمة "قضية" رئيسية ووحيدة، وهي: الأسْر
وما يتعلق به من فقدان الحرية والظلم والتعذيب. وتسرد الأحداث محاولة السجّان القضاء
المبرم على هذا الأسير؛ معنويًا وفكريًا وماديًا، مستخدمًا العديد من الآليات
والأدوات، لكي يحيله من مقاومٍ صلب إلى مجرد إنسان هش-ضعيف تذروه رياح الاحتلال
كيفما تشاء، وفي الاتجاهات التي تبعده عن مركز الحدث وعن القدرة على اتخاذ القرار.
لأن
"الزنزانة" واحدة من تلك الأدوات والآليات، بل أكثرها حدّة وأثرًا، عبر
خصائصها المتنوعة، من حيث: الحجم، ومستوى الظلمة، والخدمات المتوفرة فيها، ومستوى
الرطوبة التي تملأ أجواءها... الخ، فقد جاء عنوان الرواية ليتضمن
"عتمتها" وأثر تلك العتمة على قاطناها.
تكاد البنية المكانية للرواية أن تكون قائمة على معتقليْ المسكوبية
وعسقلان؛ وهما معتقلان احتلاليان، يستخدمهما الاحتلال للاعتقال والتحقيق والتوقيف
للمقاومين الفلسطينيين. ولم يتعد المكان في الرواية كثيرًا خارج هذين السجنين، سوى
مدينة رام الله. أما البنية الزمانية لرواية "ستائر
العتمة"، فإنها تتمركز في فترة انتفاضة الأقصى التي اشتعلت في
(28/09/2000م). وهذا يعني أن الفضاء، او الحيز "الزمكاني" للرواية، هو
في أضيق مدى ممكن.
وأما من حيث بناء السرد الروائي, فقد قام الكاتب بدور الراوي مستخدمًا صيغة
الغائب، وهو يسرد الأحداث التي مر بها "عامر". وقام "الهودلي" ببناء شخصيات روايته هذه، بالحد
الأدنى من العدد؛ فكان "عامر" هو الشخصية التي تمسك بالخيط الروائي، من
أول الرواية حتى آخرها، وكان هناك شخصيات ثانوية توزعت بين الدائمة التي بقيت
تتبادل الأدوار على طول الرواية؛ كإبراهيم ونبيل والمحققين، والثانوية التي دخلت
النص، ولكنها سرعان ما خرجت منه، كشخصية "العصفور/العميل" الذي حاول
اختراق "عامر" وهزّ معنوياته.
وقد تمكن "الهودلي"
من جعل عناوينه مترابطة على شكل سرد، يقترب كثيرًا من "السرد القصصي" جاء
على حساب الحالة الروائية؛ من حيث: انحسار المكان والزمان، وقلة عدد الشخصيات،
وعدم وجود أحداث خارج نطاق السجن تكفي لأن يتمتع النص بجنس الرواية. كما أن البطل
يبقى "وحيدًا" تقريبًا، وهو يتمتع ببطولة خارقة، مقارنة مع غيره من
شخصيات الرواية، لدرجة يمكن معها القول بأننا أمام حالة "الكف يهزم المخرز"،
والتي يعيدها "الهودلي" إلى
الحالة الإيمانية التي امتلئ بها البطل؛ مما مكنه من الصمود الأسطوري الذي أفقد
المحققين أعصابهم وجعلهم يرضخون لإرادة البطل.
ومن حيث الجمالية الروائية، أتقن "الهودلي"
التصوير في وصف "شبه بصري" لمشاعر البطل، ومشاعر الشخصيات الثانوية في
المراحل المختلفة، فنجده يفرق بين زنزانة وأخرى، وبين لحظة تحقيق وأخرى، وبين محقق
وآخر وفق المفهوم النسبي للزمان والمكان والإنسان، بما يجعل القارئ وقد وضع نفسه
مكان البطل؛ فعاش لحظاته من حيث: الخوف، والترقب، والقلق والتمرد، والتحدي ووصول
حافة الانهيار، وحتى بلوغه الانهيار التام والاستسلام لإرادة المحقق، وغير ذلك من
عوامل التوتر التي تنتابه قبل التحقيق، وأثناءه وبعده.
كما أن "الهودلي"
تمكن من وصف "شبه بصري" أيضًا للمحققين الذين كانوا يتبادلون
الأدوار كخلية نحل؛ بحيث أن لكل منهم دوره الذي لا يتجاوزه، وما انتابهم من
انفعالات جرّاء صمود البطل، وعدم رضوخه لإرادتهم. وفي كل تلك المراحل، تمكن "الهودلي" من توظيف العناصر الإيمانية
المختلفة؛ كالآيات القرآنية والأدعية والابتهالات والتسبيح، وجعل منها
"مجتمعة" كتلة صخرية صلبة تحطمت عليها محاولات الترويض والتركيع
والإذلال والإخضاع، التي أجهد المحققون أنفسهم من أجل تحقيقها؛ معتمدين على قوتهم
وقدرتهم على إشاعة أجواء من الخوف والرعب في نفس الأسير الأعزل.
ما يميز الرواية
وأما ما يميز هذه الرواية، فهو
أنها تشكل رافدًا هامًا من روافد الرواية الوطنية الفلسطينية بشكل عام، بما تحمل
من دلالات ومؤشرا الصراع القائم على هذه الأرض، بين شعب يسعى للتحرر واستعادة
حقوقه المسلوبة منذ زمن، وبين جماعة قادمة من وراء البحار تسعى إلى محوه وإنشاء
كينونة سياسية-عسكرية-اقتصادية مكانه، تمتلك أعتى أنواع القوة وأكثرها شراسة. وهذا
ما أشار إليه "الهودلي"
أثناء السرد وهو يصف وجوه المحققين وأصواتهم وحركات أجسادهم. وأما على المستوى
الجزئي، المتعلق بالسجن والتجربة الاعتقالية، فإن هذه الرواية تشكل ركيزة هامة
يمكن البناء عليها، على مستوى "ثقافة
السجون".
فقد وفّر "الهودلي"
لقارئ روايته الغالبية العظمى لما يحتاجه من مفاهيم ومعلومات، عامة وخاصة، تتعلق
بما يجري في أقبية الاعتقال، من تعذيب جسدي و/أو نفسي؛ كاستخدام الشّبح وما يتركه
من آلام، والكيس النتن الذي يحيط بالرأس إحاطة تامة، ووسائل التعذيب اللامحدودة
التي يمارسها المحققون، بلا هوادة، حتى أنه بعد وفاة أحد الأسرى بين أيديهم ذهبوا
يفرحون ويمرحون بلا وازع من ضمير.
كما أعطى "الهودلي"
أوصافًا دقيقة لما يجري في الزنازين وانعكاس ذلك على نفسية الأسير. كما زوّد
القارئ بالمعرفة المتعلقة بواحدة من أدوات سحب الاعترافات، وهم من يطلق عليهم
"العصافير"؛ وهم مجموعة من الفلسطينيين الذي يعملون لصالح الاحتلال،
ويجعلون الأسرى يقعون في براثنهم للإدلاء باعترافات، عجزت مخابراته ومحققوه عن
الحصول عليها.
لم يكتفِ "الهودلي"
بذلك، وإنما زوّد القارئ بجرعات إيمانية ودعويّة، تشيع فيه روح الصمود والتحدي،
وهو في معركة ترتكز أدواتها كافة على صراع الإرادات وليس صراع القوة؛ فالأسير
الأعزل يستطيع الصمود إن امتلك إرادة التحدي المستندة إلى الإيمان المطلق بالله
وبحقه في مقاومة الاحتلال بصوره وأشكاله المختلفة. أضف إلى ذلك ما ورد فيها من
إشارات واضحة إلى أهمية التقييم والتقويم المستمرين المصاحبان لكل خطوة ولكل مرحلة
من خطوات الاعتقال ومراحله.
وقد كان لتلك الميزات الدور الرئيسي والمباشر، في تمكين المخرج من تحويل
هذا النص الروائي إلى فيلم سينمائي متحرك، يحمل نفس إسم هذه الرواية "ستائر العتمة"، وقد شهد إقبالًا جماهيريًا
كبيرًا.
المآخذ على الرواية
أما من حيث المآخذ على النص الروائي،
فيمكن النظر إليها من الزوايا التالية:
-
يجد القارئ
لرواية "ستائر العتمة" نفسه
أمام مجموعة تنظيمية، ينتمي أعضاؤها الثلاثة لنفس التنظيم، ويحملون نفس الأفكار
والمبادئ، ويؤدون أدوارًا متقاربة على الأرض في العملية العسكرية التي اعتقلوا
لأجلها، إلا أنهم ينقسمون إلى:
1) الشخصية البطل، الأقرب إلى الأسطوري، والذي
قام "الهودلي" بتعقيمه من أي
خلل أو زلل، حتى أنه يتفوق على السجّانين والمحققين، وهم بكامل قوتهم وجبروتهم.
وهو يتسلح بإيمانيات وروحانيات وفرت له الحد الأقصى من الصمود الذي مكنه من التغلب
على السجّانين. علمًا بأنه في فترة الإعداد للعملية العسكرية، قيد الاتهام، وهو
خارج الزنازين، يبدو أقل فطنة وأقل حذرًا، لحد يشير إلى أنه لا يمتلك الحد الأدنى
من الحس الأمني الحريص على حياة رفاق دربه من المجاهدين.
2) الشخصيات الثانوية المتمثلة بكل من: نبيل
وإبراهيم، فقد بدا الأول شخصية "ساذجة" في عالم السجون والتحقيق
والقضايا الأمنية، وبدا الثاني شخصية "هوجاء"؛ يمارس فيها حالة من
"التذاكي"، دون أن يدرك معنى السجن ولا التحقيق، رغم مروره بتجربة
اعتقالية سابقة، لدرجة تثير الاشمئزاز والغثيان. كما لم نلحظ عليهما أي محاولة
للتسلح بما يمتلكان من العمق العقائدي والإيماني الذي يفترض أنهما يلتقيان فيه مع
الشخصية البطل.
-
إن حصر
الرواية على الشخصيات الموصوفة فيها جعلها بعيدة عن واقع السجون والمعتقلات، في
تلك الحقبة الزمنية، التي كانت تعج بآلاف الفلسطينيين، من بينهم مئات يتمتعون
بخصائص الشخصية البطل، ومن مختلف المشارب الفكرية. كما أن التضييق الزمكاني للنص
الروائي، استبعد أحداثًا هامة ومتسارعة كانت قد شهدتها تلك الحقبة، ذات صلة مباشرة
وغير مباشرة بالأسْر والأسرى، مما يضعف البنية الروائية، ويجعلها أقرب إلى النص
القصصي منها إلى النص الروائي.
-
لقد
كانت الرواية واضحة للقارئ، منذ بدايتها وحتى خروج البطل منتصرًا؛ بانتقاله إلى السجن
العادي، إلا أن النهاية لم تكن واضحة، علمًا بأن هذا النوع من الرواية لا يحتمل
النهايات المفتوحة، وإنما كانت أحداثها محدودة ومترابطة للحد الذي يجعل القارئ لا
يستغني عن نهاية واضحة كوضوح البداية.
خلاصة القول:
إذا ما علمنا بأن أكثر من ربع الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة قد مروا بهذه
التجربة الاعتقالية، وأن كل فلسطيني على يتنفس تحت حراب الاحتلال معرض للاعتقال،
حينئذ ندرك أهمية الروايات والقصص ذات الصلة بالأسْر والأسرى وما يجري في أقبية
الاعتقال، في صقل تجربة كل منا، سواء أُسِر أو لم يُأسر؛ فمن لم يُأسر شخصيًا،
هناك قريب مباشر له أسير أو مقبل على
الأسر. وفي جميع تلك الحالات، نحن بأمس الحاجة إلى ثقافة، تتحول إلى سلوك، يشكل
لنا جرعات كافية للصمود في معركة صراع الإرادات هذه التي تنتقل من جيل إلى جيل.
من جانبٍ آخر، لا بد من الإشارة إلى أن هناك ضرورة لتحويل تلك النصوص
الروائية و/أو القصصية إلى سيناريوهات لأفلام متحركة، أو مسرحيات، أو تمثيليات، أو
أي شكل آخر من أشكال الإعلام المرئي والمسموع، بما يوفر لشعبنا المعرفة بتاريخ
أبطاله الأسرى، عبر الحقب الزمنية المختلفة، كما يوفر ثقافة حول الأسْر والأسرى
والسجون، للفرد والمجتمع، لصياغة مجتمعٍ واعٍ لما يدور حوله، قادر على نيل حقوقه
المشروعة في مقاومة الاحتلال والعيش بكرامة على أرض الآباء والأجداد.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 24/09/2015م
إرسال تعليق Blogger Facebook