المرأة
في رواية "الشيخ ريحان":
تمسك بخيوط اللعبة الروائية
نشر في مجلة شؤون فلسطينية، العدد (261)، خريف 2015، ص:
223-229
عزيز العصا
تتكون رواية سرديات مقدسية "الشيخ ريحان" الصادرة
عن "دار الجندي للنشر والتوزيع"، في العام 2014، لكاتبها "أحمد زيد غنيم"، من تسعٍ وأربعين
سردية، تشكل القدس بنيتها المكانية، انطلاقًا من باب السلسلة، وصولًا إلى أبعد
نقطة فيها من جهاتها الأربع. أما البنية الزمانية فتبدأ من "ثورة
البراق" في العام 1929، حتى ما بعد اتفاقية أوسلو في العام 1993.
وأما "الشيخ ريحان"؛ فهو الصحابي أبي ريحانة الأزدي، الذي نزل القدس بعيد فتحها عام
(16هـ/ 638 م) وعاش ودفن فيها. وله ضريح يقع في حارة السعدية في الجهة الشمالية الغربية من المسجد الأقصى
المبارك تجاه باب الغوانمة، إلى الشرق من طريق متعرجة (عقبة) تحمل اسمه، وتحديداً
في رأس عقبة المولى (عقبة الراهبات)[1].
لا تكاد سردية تخلو من ذكر المرأة المقدسية، لدرجة أنه
يمكننا القول، من هذه الزاوية، أننا أمام رواية "نسوية" بقلم رجل،
أو أنها من النصوص الروائية المستمدة من نبض الأسرة المقدسية. فما يكاد مشهد يمر
في هذه الرواية إلا ويكون للمرأة فيه دور، يتراوح بين الرئيسي والثانوي والمساند.
وقد كان عدد الأسماء الأنثوية التي تم توظيفها في الرواية يضاهي عدد الأسماء
الذكورية ويزيد عنها. فهي حاضرة على المستويات كافة: ابنة، زوجة، جدة، جارة،
مقاومة، مناضلة، مقاتلة، ناصحة، مرشدة، مبدعة، راهبة، واعية، حامية للبيت بوجود
الرجل أو بغيابه. وقد تميزت الرواية بأنها، وإن كان هناك حوارات متخيلة، إلا أن
شخصياتها حقيقية وليست متخيلة، ومستقاة من تاريخ القدس وحاضرها.
إن قراءة تحليلية لدور المرأة المقدسية في هذه الرواية،
تجعلنا نتنقل بين المحاور التالية:
المحور الأول: المرأة ذات الأبعاد والخصائص
والسمات المتعددة:
البطل الرئيس في هذه الرواية هو "عمر"؛ زوج
هدى وشقيق فاطمة ونرجس، إلا أن شقيقته "فاطمة" كانت شخصية موازية للبطل
الرئيس، وقد ذُكرت حوالي مائتي مرّة في هذه الرواية. وفاطمة هذه ذات خصائص وسمات
لا بد من التوقف عندها بالقراءة والتحليل، لأنه من حقها علينا أن نعتبرها
"نموذج المرأة المقدسية في القرن العشرين". فنراها تتمرد على الواقع
الاجتماعي، وهي الثورية، والناصحة، والمربية، ثم ينتهي الأمر بها إلى أن تكون
نموذج التضحية والفداء.
بالعلم،
تمكنت فاطمة من كسر مقولة نمطية ممتدة منذ مئات السنين وهي "البيت هو
كلّ عالمِ الفتاة؛ فيه تُولد وفيه تَكْبر وفيه تموت"، فأحدثت ثورة على الواقع
الذي يعتبر أن التعليم حكر على بنات
الأغنياء والعائلاتِ الكبيرةِ.
وما
أرادته فاطمة لنفسها، أرادته لبنات جنسها من المقدسيات،
وبالتالي، حملت قضية تعليم الفتيات؛ وكانت تدور من حي لحي، بهدف إقناعِ الأهالي من
نساءٍ ورجالٍ، على إرسال بناتهم إلى المدرسة، رغم مشقة ذلك على الكثيرين بسبب من
الفقر والفاقة والعادات. وفي محاولة منها لتعويض الفتيات اللواتي لم يأخذن فرصة
التعليم، جعلت من ساحة البيت، وظلِّ التينة حلقة لتدريس فتيات الحي وبعض الكبار من
نسائه.
فاطمة
صاحبة فكر، ولا تخجل من التعبير عن رأيها، وهي الحكيمة، ويعتبرها أهل الحارة مرجعيتهم:
فقد كان لديها القدرة على فهم ما يجري حولها من أحداث، والقدرة على استشراف المستقبل.
وكانت معنية بالتوثيق ووصف المستوى الحضاري الذي وصل إليه المقدسيون، في حينه. وكانت
تؤمن بأنَّ زمناً سوف يأتي، تتفجر فيه الكلمات ينابيع، من تحتِ الصخور، ما
تَعِبَتْ منَ الانتظار. فكتَبَتْ للبئرِ ودلو الماءِ وحجارةِ الطرقات، ولحباتِ
السمسمِ في لقمةِ زعتر، وكانت تُخفي ما تكتب في صندرةٍ[2]
بعيدًا عن الأيدي والعيون. وأضحت صاحبة رأي ومشورة، أحبَّها الناسُ، وتعاملوا معها
كأنها أحد رجالهم، وأصبحت مرجعيتهم في العديد من القضايا وشؤون الحياة، حتى أصبحوا
يقولون: "هكذا قالت الست فاطمة، فتاة الحي، معلمة المدرسة، ابنة بائع الحليب". كما أحبَّها أهلُ
البيتِ وزملاء الدرس وأهل المدينة (ص: 28).
المحور الثاني: المرأة التي ترى في البيت
حدود عالمها:
يستعرض "غنيم"،
في روايته هذه، الجانب التقليدي للمرأة المقدسية في تلك الحقبة الزمنية، مثل "نرجس"
التي لا تقل فطنة وذكاء عن أختها فاطمة، صاحبة فلسفة تقليدية؛ تشربتها من المجتمع المحيط بها، والذي
يصفه "غنيم" بأنه "مجتمع الرجال الذي سجن
المرأة، وأخفى خلف قضبان سجنها ضعفه وانكساره أمام روحها الجميلة". نرجس، تمثل غالبية
بنات المدينة، تلزم البيت الذي هو كل عالمها،
فيه ولدت وفيه تحيا، وتموت فيه، أو
في بيت زوجها.
ثم ينشأ حوار صامت بين التعلم والجهل، وبين التقليدي
والمعاصر، وذلك نتيجة لظهور "فاطمة"
المتعلمة، والتي تأتي بما هو جديد، ومخالف للتقليدي، بل أنه معادٍ له. إذ أن "نرجس"
المرأة التقليدية، المنزوية بين جدران البيت الأربعة، أصبحت تعاني من الحرج أمام
"فاطمة-الاستثناء"، التي "درأت خباء التواري والعادات، واقتحمت
جدار الصمت والمألوف، وقفزت إلى حيث المختلف والغريب" (ص: 32).
لقد
أحدثت فاطمة-المتعلمة انقلابًا في قناعة المجتمع التقليدي، المتمثل بـ
"نرجس" و"عمر". حتى أن عمر أطلق على فاطمة "عيون
العتمة... العيون اللعينة"، كما اعترف بأن فاطمة بالوعي "أطفأت عيون
الظلام" (ص: 90-91).
المحور
الثالث: مواجهة المقدسيات للاحتلالات المختلفة للقدس:
كما قلنا سابقًا؛ تعتبر هذه الرواية نسوية بامتياز، فبطلتها الرئيسية فاطمة
هي الشخصية الموازية لشخصية "عمر"،
ومعها شخصيات أخرى ثانوية ومساندة، ذات علاقة بجميع السرديات التي توزعت عليها
الرواية، مثل: نرجس، وسميرة وأدهمية وماري وربى.. الخ. وقد ظهر هذا جليًا في
المحور المتعلق بالصراع مع اليهود،، قبل النكبة وبعدها، عند دفاع المقدسيين عن
قدسهم.
ففي هذا المحور ظهرت المرأة المقدسية وهي تخوض الصراع على المستويات:
العسكرية، والسياسية، والفكرية والتحريضية، تتقدم الصفوف أحيانًا، وتأخذ دور
المشارك والداعم والمساند في أحيانٍ أخرى. وقد تعددت المواقف ذات الصلة، والتي
نذكر منها:
دور فاطمة؛ رمز المقدسية المتعلمة والمثقفة: بعد أن استقرت شخصية "فاطمة" بأبعادها
الفكرية والفلسفية والمجتمعية، اتجه بها "غنيم" نحو الدور الوطني، في
مواجهة مباشرة مع الاحتلال البريطاني الذي كان جنوده يكيلون الإهانات للمقدسيين كلما
حانت لهم الفرصة بذلك. ويتجلى ذلك على حاجز عند زاوية الهنود/ قرب باب الساهرة،
عندما تنبري فاطمة-المتعلمة لتحاور الجندي البريطاني حتى تربكه وتجعله ينهي المشهد
بأن "يهزّ رأسه؛ استسلامًا لجزالة الحجة التي ساقتها فاطمة، ويفتح الطريق لها
وشقيقها عمر وللآخرين.
لم تتوقف فاطمة عند هذا الحد، بل أخذت تبث
الأمل، وتدعو إلى استنهاض كافة الطاقات ووضع
الاستراتيجيات من أجل الدفاع عن عروبة "قدسهم". وترى أن الفرد هو الأساس،
وعلينا أن نحمل مسؤولية استنهاض الأمة، وإن لم يقوم المجتمع الفلسطيني
الانجليز، فستسرق البلاد وتُعطى
لليهود، ويصبح الفلسطينيون غرباء في وطنهم"
(ص: 96-97).
ولا تكتفي فاطمة بالتعليق وتقديم الاقتراحات، بل تنتقل
إلى مستوى متقدم من العمل، فتصبح عضوًا فاعلًا في العمل الفدائي، بأن تنسق بين
الخلايا الفدائية المختلفة، وينكشف ذلك من خلال رسالة "وعد" لها،
المشبعة بالرمزية، والتي تعبر عن طبيعة الصراع. يقول وعد: "لفاطمة
التي تحرس ورْدَ الصباح، الرسول أمين والوعد صادق، ولنا زهرة الصبح إن طال الظلام،
لا يجف الدم في باب العامود قبل أن يُطلّ الفارس، ويتوقف الإصدار" (ص: 119).
مواقف
فاطمة والدور الذي تقوم به في تأجيج الثورة وإذكائها جعل السلطات البريطانية تخشى من
الدور الذي تقوم به "فاطمة". وكعادة المحققين في السيطرة على من يحققون
معه من خلال العرض والشرف، يحرض المحقق "عمر" على شقيقته
"فاطمة" (ص: 166).
لكن فاطمة أصبحت رمز الثورة والتمرد على الواقع الفاسد. وعندما اشتد أوار المعركة،
إبّان النكبة، أخذت دورها في توفير الأدوية والإسعافات
والشموع، والخدمات التمريضية للمصابين وللأسر القاطنة في حارتها والحارات الأخرى (ص: 217-218).
ثم
خرجت فاطمة إلى ميدان المعركة، فشكَّل ذلك إحراجاً شديداً لعدد من الرجال والشباب
وبعض الفتيان الذين همَوا بالخروج لولا سقوط قذيفة دمرت دار السكسك في الحي
المجاور، وأخرى سقطت قرب الحرم الشريف (ص: 224-225). وعندما أصيب "الفدائي زيد"؛
زوج "نرجس" بجرح عميق أصاب رأسه؛ وهو يدافع عن المدينة عند باب النبي
داود، سهرت فاطمة إلى جوار سريره، في مستشفى الهوسبيس، كاد قلبها ينفطر حين أمسك
يدها بألم شديد، وهمس في أذنها، واصفًا الأحوال وواقع الأمة وحالة التخاذل، ثم دخل
في غيبوبة تامة.
أصبحت
"فاطمة" منطوية على نفسها بعد أن تلاشت تلك الطاقة والحيوية ونضارة
الوجه والبسمة الدائمة، وحلَّ مكانها البؤس والحزن والكآبة والانزواء بعيدًا عن
الناس (ص: 283).
وأخذت "تقبع في ركن غرفتها أسيرة حُلمها الطويل"
(ص: 288)، الذي
ينتظر الوعد بإعادة الأمجاد. وكان لغيابها أثر سلبي على الحارة التي هبّت نساؤها
لعلاجها وإخراجها من الحال الذي آلت إليه (ص: 305-306)، وهذا الموقف الجماعي للنساء، ما هو
إلا نتيجة عمل دؤوب سابق لفاطمة التي أقعدتها المأساة التي عاشتها أختها نرجس
وأطفالها.
ثم
تأتي النكسة في العام 1967؛ فتتسلم "ربى"؛ إبنة شقيق فاطمة، نفس المهمة
التي أسستها فاطمة في حروب النكبة: أحضرت صناديق من الأدوية واللفائف والأدوات
الطبية، رافقتها بعض بنات الحي. حينئذٍ؛ تنهض فاطمة من ركن غرفتها، وتنضم إلى
الفريق (ص: 363)،
إلا أن "ربى" تتعرض لإصابة في عمودها الفقري، فتستشهد على ذراع
"فاطمة" التي "غابت من جديد (ص: 368). وبقيت "فاطمة"، رغم انطوائها
على نفسها، تبدي وعياً وتعاطفاً مع كل صاحب شكوى أو بلاء (ص: 452).
وبعد
مرور سنتين على النكسة أصبحت فاطمة "حاضرة غائبة"؛ إذ تحوَّلت حياتها
إلى يوم انتظار طويل لا ينتهي، وكثيراً ما أصبحت تهيم على نفسها بالأسواق على غير
هدى، أو تجدها إحدى الجارات إما قابعة بصمت في إحدى زوايا ومسطبات المسجد الأقصى،
أو ساجدة لصلاة في غير وقتها في قبة الصخرة المشرفة، حتى ظن البعض أنها فتاة
مَبْروكة، وأصبحت معروفة لكل أهل المدينة بفاطمة المبروكة. كما أصبحت حكاية فاطمة
المعلمة المناضلة واحدة من قصص الخيال التي ترويها الجدات للأحفاد، مثل قصة الشيخ
ريحان، وقصص الأولياء والصالحين (ص: 412-413).
ويشهد
للأمهات المقدسيات مشاركتهن في المعركة بقوة، وشجاعة عالية. ومن خلال رصد الأدوار
المختلفة التي قامت بها الأمهات في رواية "الشيخ ريحان"، نذكر منهن:
"أم مهران"، امرأة في منتصف عقدها
الخامس، تحتضن اجتماعات الخلية التنظيمية التي يترأسها ابنها وتيسر للفدائيين، مثل
"سعيد راضي"، المخابئ الكافية للابتعاد عن أعين الأعداء وجواسيسهم وعملائهم
(ص: 114-115).
الحاجة فيكات "أم نصرت"،
التركية الأصل، زوجة باشا معروف (ص: 188)، وهي والدة "زيد" الفدائي، الذي كانت تَعلم
بتفاصيل تحركاته، دون أن تحاول ثنيه عن مهامه القتالية إلى جانب "فوزي، وعبد
القادر، ووعد، ومجد..." ودائماً تدعو
لهم بالنصر المؤزر (ص: 191).
ابنها "زيد" تزوج "نرجس"، وأنجبت منه. لكن نرجس تقع فريسة، هي وأبناؤها، بين براثن الأعداء إبان النكبة، وتختفي آثارها.
تأخذ
"أم نصرت" دورًا رائعًا في إدارة العلاقة مع جارها "يعقوب-اليهودي"
الذي "يشحذ" منها الدقيق ثم يتنكّر لها ولقوميته العربية، بعد نجاحهم في تهجير المقدسيين من ديارهم، فيقود قوة لإزالة القبر
والبيت العائدين لـ "أم نصرت"، فتقاومه، وتقول له: أنت قصير النظر يا يعقوب، ولا تفهم التاريخ، ولا
قوانين الجغرافيا، على هذه الأرض طُحنت أوهام
إمبراطوريات أعظم من دولتكم التي لم يمتحنها الزمن بعد (...)، ربما ربحتم معركة،
ولكن عليك الآن أن تعلم أن المقاومة ستتفجر في وجوهكم يوماً ما، وستواجهون زيداً
من جديد وفوزي وبن يحيى فرحات وأبناءهم وأحفادهم،
وستبقى المقاومة وستنتصر، لأنها ظاهرة تاريخية لا تنتهي ولا تهزم فهي تستند
إلى قانون يصعب عليك فهمه الآن، وستدرك معناه في حينه، لا تعايش مع الإحتلال (ص: 410-411).
وانتهت
فيكات "أم نصرت" كما ينتهي الأبطال التاريخيون،
عندما ضربت بعصاها على رأس جندي حاول أن يدفعها خارج
البيت، قاومت بعزيمة لا تلين، لم تصرخ، لم
تستنجد بالناس، وقفت وحيدة تضرب بعصاها الصخر، حتى دوت رصاصة واحدة، كأنها سهم مصوب، اخترقت قلب البَلِيَّةَ، أحست بلسعة النار، مدت
يدها أمسكت بشاهد القبر، أسندت رأسها إليه وهمست: اليوم أوفيك عهداً آخر،
لكنه عهد أخير (ص: 471).
· سعدة؛ فتاة من عشيرة النَوَر التي تعيش
قريباً من أسوار باب حطة، تخلع نعلها وتضرب أحدَ الجنود، الذين انهالوا عليها
ضرباً، ويتدخل "صابر" لإنقاذها، فينال نصيبه هو كذلك من الضرب.
وتثبت الأيام مدى صدق سعدة ووطنيتها
وعفتها والتصاقها بـ "صابر-الثائر"، الذي بعد أن حُكم (19) مؤبدًا، ازداد تعلق سعدة به، وازدادت
وتيرة جاهزيتها للمزيد من التضحية من أجله. حينئذ؛ حظيت على احترام المقدسيين،
وأصبح الكل يقول: افسحوا الطريق للأخت سعدة (ص: 461، 466-467).
المحور الرابع: المرأة المقدسية تحت النيران:
ليس من قبيل المصادفة أن يتم وضع المرأة
المقدسية تحت النيران مباشرة،
وإنما هي استراتيجية الحركة الصهيونية؛ أن تضرب في العمق، بما لا يُبقي ولا يذر من
الآخر على أرض فلسطين، سواء بالقتل المباشر أو بالإرهاب والتخويف من أجل دفع
المواطنين الأصليين للمغادرة وترك المكان شاغرًا للقادمين الجدد.
لذلك؛ كانت أكثر المشاهد إيلامًا، أثناء النكبة والنكسة
وما قبلهما وما بعدهما، تتعلق بالممارسات ضد المرأة، كما أوردها "غنيم"
منها:
- مشهد قتل بحق
الرجال والنساء والأطفال في دير ياسين، إلا أن الأكثر إيلامًا ما قاله
عامل الصليب الأحمر في القرية: "إنه رأى شابة من الهاغانا بزِّيها الكاكي تضع
على كتفها بندقية قصيرة، وتحمل سكيناً بيدها الملطخة بالدماء، وتقول بفخر
هستيري: بيدي هذه ذبحت المرأة العربية في
الغرفة المجاورة" (ص:
199). ثم يتكرر المشهد في كل مكان: ينادى أحد جنود الهاغانا بلغة عربية
ركيكة "ارحلوا فوراً وإلا قتلناكم جمعياً مثلما فعلنا بدير ياسين، الطريق إلى
عمان مفتوحة" (ص: 206).
وفي كل مرة نجد أن المرأة هي التي تدفع الثمن.
- "سميرة" تعد طعامًا لأسرتها، إلا
أن الغزاة تناولوه، ساخنًا، وبعد أن استراحوا،
اقتحموا بيوت الحي الفارغة من أهلها.
- نرجس؛ شقيقة فاطمة، التي كانت تقطن في غربي القدس مع زوجها "زيد"
وإبنيها، زجّها الجنود في إحدى شاحناتهم، صرخت بأعلى صوتها: جمال... جمال
خُذ أخاك واذهب لبيت العمة روز،
انتحب الطفلان وصرخا أمي. نظرت نرجس إلى أطفالها بعيون دامعة، عبرت إلى
لحظة فصلت بين زمنين ثم غابت، انطلقت مركبات الجند وتوارت خلف الدخان (ص: 207-208).
- "العمة روز" تدخل في المشهد بقوة. ففي لحظة إنقاذها لإبنيّ
نرجس داهم الجنود بيتها. ثم تسلسلت الأحداث من الزجر والتهديد بالقتل، إلى النهب
والتهديد، والنظرة العنصرية، واحتلال البيوت، وطرد أصحابها، وحرمانهم من أخذ أي
شيء من المنزل.
· أرادت العمة روز، وقد أُسقط بيدها أن
تأخذ ألبوم الصور، صور ولدها وزوجها، إلا
أن الجندي ركلها بقدمه وصاح، ارحلي من هنا، دفعها بعنف شديد، وقال: اصنعي لك ذاكرة
أخرى في مكان آخر، أو أدفنك هنا مع ذكرياتك البائدة (ص: 210).
خلاصة القول:
بعد هذا التحليل الدقيق، إلى حد ما، للبعد النسوي لرواية
الشيخ ريحان، نجد أن الكاتب قد ربط وصفه للصراع بأزمنته المختلفة بأسماء المقدسيات
اللواتي دافعن عن قدسهن بكل السبل، بدءًا بالصمود ورعاية البيت في غياب الرجل، في
ذلك المجتمع الذكوري بامتياز، وانتهاءً بخوضهن معارك حقيقية إلى جانب أبنائهن
وأحفادهن وأشقائهن وأزواجهن. وبعد الانتهاء من السرديات المكونة للرواية، نجد أن
لكل إسم من الأسماء الواردة في تلك السرديات "رمزية" خاصة، أطلعنا
الكاتب على فك شيفرتها، كقوله: فاطمة ونرجس تشكلان رئتين لجسدٍ واحد، ضفتا القلب
الذي شطرته الحرب إلى نصفين" (ص: 337)؛ إنهما شطرا القدس: بشرقيّها وغربيّها.
أي
أنه قد استخدم إسم فاطمة (ذلك الإسم الدال على الأصالة) وسلوكياتها وتطورها الفكري،
في إشارة إلى المقدسيين القابضين على حقوقهم في العيش، بحرية، على أرض الآباء
والأجداد. وأما نرجس؛ ذلك الإسم الدال على عبق الورد وجماله، فقد أشار به إلى غربي
القدس الذي ضاع في العام 1948.
وبعد
اتفاقية أوسلو في العام 1993، تنبري جدة عادل (زوجة شهيد ثورة البراق-1929)، بالقول: صحيح
إنكم رجعتم، لكن عادل وأدهمية (غادرا إبّان النكسة) ما عادا، ونرجس لليوم ما
لقيناها يا ستي، وصابر ما زال سجيناً، وفاطمة تغيب مع حلمها الطويل، منذ النكبة لا
تصدق أن ما تحياه هو واقعها البائس المرير(ص: 479). وينتهي أمر فاطمة بأنها تصاب وهي تصد
بجسدها النار عن فتيان المدينة، ثم "ضمت منديل نرجس إلى صدرها وقضت" (ص: 492).
هكذا؛ نكون أمام رواية
"نسوية" من نوع مختلف عن الطابع العام للروايات النسوية[3]؛
فهي لم تحتفِ بالجسد الأنثوي بوصفه هوية مميزة للمرأة, بوصف جمالياته ورغباته، ولم
تطرح رؤية أنثوية للظهور على أنقاض الرؤية
الذكورية، أو تتطلع إلى إزاحتها، كما أنها لم تعرض نقداً جذرياً للنظام الأبوي في
مستوياته الثقافية والدينية والاجتماعية, ولم تقدّم هجاء مرّاً له بهدف زعزعته،
وتفكيكه، واستبداله بنظام أمومي يعطي للروابط الإنسانية قيمة أعلى من القيم التي
كرستها الأبوية. وإنما احتفت هذه الرواية بالمرأة (المقدسية) القابضة على أسرتها
بتربية النشء، والمنصهرة في قضيتها الوطنية، وهي تدافع عنها بكل صلابة وبإرادة حرة،
فأمسكت بخيوط اللعبة الروائية عندما أصبح السارد يتكئ عليها أينما اتجه في سردياته
جميعًا.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 09 أيار، 2015
[1] انظر:
دائرة شئون القدس في منظمة التحرير الفلسطينية. الرابط: http://alqudsgateway.ps/wp/?p=2658 (أمكن الوصول إليه بتاريخ:
12/05/2015م)
[3] إبراهيم، عبد الله (2012). المحاورات السردية. المؤسسة العربية
للدراسات والنشر. بيروت، لبنان.
ط1. ص: 29-31.
إرسال تعليق Blogger Facebook