عفيفة السّميطي التونسية في روايتها "صدأ
التّيجان":
ثيمة تخترق تابوهات القصور.. وتعيد المُلك
للشعب
نشر في صحيفة القدس الفلسطينية بتاريخ 15/07/2017 ص: 15
عزيز العصا
http://alassaaziz.blogspot.com/
تقديم
عفيفة سعودي السّميطي؛ روائية تونسية، عضوة بمركز الرواية العربية بقابس. نشرت مقالات
وأعمال أدبية على صفحات مجلات وصحف تونسية وعربية. وأعمالها الروائية، حتى تاريخه: صدأ التيجان، وهبني أجنحة، وغلالات بين أنامل غليظة.
أما العمل الأدبي الذي نحن بصدده للكاتبة "عفيفة السّميطي" فهو روايتها "صدأ التّيجان"، الصادرة بطبعتها الأولى
للعام (2011) عن مركز
الرواية العربية للنشر والتوزيع بقابس، والواقعة في (354) صفحة من القطع المتوسط، احتضنت (21) محطة.
ثيمة الرواية وسيميائية العنوان والغلاف
بقراءة متأنية لهذه الرواية وجدتني أمام ثيمة
روائية متعددة الأبعاد، جوهرها اختراق تابوهات القصور التي يقطنها قلّة من القوم،
مختلفون متضادون متآمرون، كل على الآخرين، تجمعهم مصالحهم وشهواتهم بـأبعادها
المختلفة: شهوة البقاء وشهوة الحكم وشهوة الجسد.
تبدأ الرواية بعنوانها "صدأ التّيجان"؛ الذي يشير إلى نص روائي يغوص في حياة
الملوك وتيجانهم (جمع تاج)، التي تفقد مهابتها وهيبتها وتتحول إلى مجرد قطعة صدئة
لا قيمة لها، وبغلاف من تصميم مركز الرواية
العربية للنشر والتوزيع بقابس، يحمل ملامح فوضى عارمة يشارك فيها خليط من البشر، من الجنسين، يستخدمون
حيوانات من مختلف الأنواع، فتبدو ساحة قتال بمختلف أنواع الأسلحة، ولكن السائد
فيها هو الخنجر. أي أن الرواية تبدأ بسيميائية تنبئ القارئ عن نص تتصارع فيه القوة
(قوة الملوك)، مع حق الشعوب في العيش، إلا أنه ينبئ عن فوضى وأسى وغضب وارتباك
وعدم توازن.
تهدي "عفيفة السّميطي"
روايتها هذه إلى صانع التغيير؛ الذي يحرر المجتمع من صدأ القوة وعنجهيتها،
ويستبدلها بقوة الحق التي يتبناها مجتمع واعٍ يدرك أفراده أن كل واحد منهم هو واحد
من مكونات "السرب"، وأن عليه أن يبقى في مكانه الصحيح؛ لكي لا يهتز
السرب ولا تتبعثر القوة الناجمة عن لُحْمَتِهِ وتماسكه.
قدمت "عفيفة السّميطي"
في روايتها هذه سردًا نثريًا جميلًا، يحمل ملامح الأصالة في مفرداته ومعانيه،
وهي تتابع التغيرات في مجتمع السرد، وتعبر عنه وتعكسه في النص الذي شكّل نسيجًا –متماسكًا-
من تغيرات أشكال الوعي الاجتماعي، المتمثلة بالمفاهيم، والرؤى، والخطابين السياسي
والاجتماعي، وما رافق ذلك من معالجات فنية وفكرية رصينة؛ تمثلت في السرد العلمي
الذي يفسّر ويوضّح ويبيّن الغامض من الأمر.
هكذا تكون
الكاتبة قد وفِّقت في توفير معمار جمالي مدهش، عندما وزّعت الثيمة الروائية على
محطات سردية، لكل منها ثيمتها الجزئية التي تشكّل "طرزة" في النسيج
الجميل للرواية، يصل بينها خيط روائي متين. كما قامت بالتقاط شخصيات الرواية من
الشرائح المجتمعية المختلفة؛ بدءًا بالملك المحاط بالخدم والحشَم والخيرات الوفيرة
وانتهاءً بطفل تائه في صحراء قاحلة لا يمتلك المأوى ولا رغيف الخبز، وما بين هاتين
الشريحتين من عمّال وفلّاحين وباحثين... الخ.
بنائية رواية "صدأ التّيجان"
لقد تمكنت الكاتبة من جعل القارئ يتوهم توهمًا قاطعًا
بالحقيقة، وذلك عندما وصفت البنيتين–المتخيلتين- للرواية: الزمانية والمكانية
مستخدمًا أماكن حقيقية، ومشيرةً إلى ملامح حقبة زمنية حقيقية، كما يأتي:
البنية المكانيّة: والّتي تتمثّل، بشكل رئيسٍ بدولة تخييلية على أرض الوطن
العربي، بطبيعتها الجغرافية الممتدة حتى عمق الصحراء، وتمتد هذه البنية لتشمل
أمريكا وجامعاتها (ص:
103-106).
البنية الزّمانيّة: وإن تجنبت الكاتبة ذكر السنوات والحقب التاريخية التي
تجولت فيها الرواية، إلا أن تكنولوجيا الاتصالات الموصوفة في السرد، كالموبايلات
والفضائيات، تشير إلى أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين. كما جاء
ترتيب الزمن وتوزيعه بين الماضي والحاضر، ولم تُجهد الكاتبة نفسها بالبحث في
المستقبل، وإنما جعلت نهاية الرواية مفتوحة على المستقبل بعد أن تمت الثورة
الجماهيرية، التي صممت بأيدي قاطني القصر أنفسهم، والتي انتهت بالقضاء على هيمنة القصر على كل تفاصيل الدولة.
التفاصيل تعزز النص وليست طارئة عليه
لقد قامت الكاتبة في رواية "صدأ التّيجان" بتوظيف التفاصيل بكفاءة عالية، تمكنت من خلالها من كشف
وتبيان العوالم النفسية والسلوكية لشخصيات الرواية، ذات الصبغة الشعرية (كما في ص: 10-11)، والتي
كانت تقترب "أحيانًا" من السردية البحتة التي تضع القارئ أمام نصوص ذات
أبعاد علمية ومعرفية تسهم في رفع المستوى الثقافي والمعرفي للقارئ (كما في ص: 19-20). وقد
ورد مكانها في النص، وطبيعة تنظيمها، بما يجعل القارئ أمام خيار الغوص فيها أو
المرور عنها، دون أن يتأثر فهمه لجوهر الحدث الروائي.
وتم توظيف التّفاصيل
لخدمة السّرد وتوضيح الغامض من القول، باستخدام الأدوات اللّغويّة المتعدّدة من
التّصوير والاستعارات والكنايات والبلاغة، واضطلع الوصف في هذه الرواية بوظائف
متعدد، أهمها(): الوظيفة المعرفيّة؛ بتقديم معلومات ذات أهمية علميّة أو ثقافية. والوظيفة
السّرديّة؛ بتزويد ذاكرة القارئ بالمعرفة اللّازمة حول الأماكن والشّخصيّات،
وتقديم الإشارات الّتي ترسم الجوّ أو تساعد في تكوين الحبكة. والوظيفة الجماليّة؛
الّتي تعبّر عن موقع الكاتب (السّارد) داخل نظام الجماليّة الأدبيّة. والوظيفة
إيقاعيّة؛ لخلق الإيقاع في القصّة: إذ إنَّ قطع تسلسل الحدث لوصف المحيط
الجغرافيّ الّذي يكتنفه يولّد تراخيًا بعد توتّر، وقطع تسلسل الحدث في موضع حسّاس
يولّد القلق والتّشويق، وبالتّالي التّوتّر. وهذا ما يلمسه القارئ عند الانتهاء من محطة سردية
والتوجه للسردية التالية.
الرواية تترك في القارئ أثرًا لا يُنسى
إلى جانب ما حملته الرواية من دلالات وتكامل من حيث
البناء الفني، وما تمتعت به من لغة جميلة، التي تتأرجح بين الشاعرية والعلمية،
المشبعة بالتشبيهات والكنايات والجماليات، بمستويات مختلفة، نجد أن السارد/ة مرر
العديد من القيم والمثل التي أرادها لأن تكون جزءًا من ثقافة القارئ، ولعلي به
أراد منها ترك أثر معرفي وثقافي، مثل:
أولًا: في نظرة فلسفية نجد الرواية تبث في القارئ مفاهيم
تتعلق بالثورة على الظلم وعدم الركون لعنجهية القوة. ونظرًا لضعف الأفراد بسبب
فقرهم، أو إفقارهم من قبل الحاكم، فقد أشار مدخل الرواية إلى أن وحدة الضعفاء تشكل
قوة لهم تجعلهم يتحررون من "أسر" الأرض ومن عليها (ص: 7). واستمرّ هذا
المفهوم حتى نهاية الرواية، حيث تمكن "الرعاع" الجاهل من القضاء على
الظلم والظالمين، عندما توحدت جهود ذلك الرعاع وعندما تم توجيهه بعناية.
ثانيًا: يتضح من الحوارات بين شخصيات الرواية حجم الظلم الذي
يقع على عامة الناس من قبل قلة قليلة تقبع في القصر، يمارسون السياسة وفق
منهجية "إذبح دون أن تسفك دمًا" (ص: 43)، فئة تتحكم في كل تفاصيل العامة وتنصّب
عليهم من تشاء هي، وفق مصالحها " الضيقة"، فعند تنصيب بطل الرواية ملكًا،
وهو من عامّة الناس، لمجرد أن ابنة "الملك" أعجبت به قال: أن تصبح
ملكًا بأمرٍ من ملك ودون علم المملوك فذلك غريب حقًا (ص: 13). وعند تنظيم صفوف الحضور لتنصيب
الملك "الجديد" حضر جميع من في القصر ما عدا "الشعب الذي لم
يُحجز له مقعد" (ص:
24).
ثالثًا: الظلم لا يدوم: فقد كانت عقدة الرواية تتمثل في
تحول المُلك والحكم من خاصة الناس إلى عامّة الناس، فكان المُلك من نصيب حفيد ذلك
الفلّاح الذي قضى نحبه تحت كلاب الحاكم بعد أن اغتصب أرضه (ص: 183-185). ثم ينطلق الملك الجديد نحو
الصحراء ليحيي الأرض وينقذ أهلها المشردين الذين يتحكم فيهم "العمدة"
الذي يدير المنطقة وفق مصالحه الخاصة (ص: 306-310).
رابعًا: المرأة في القصر، تمارس الخداع والتسويف، وتسعى إلى
إشباع رغباتها بكل السبل والوسائل والأساليب، دون أي قيود أو رقابة من ضمير.
والخيانات هي السائدة في القصر، كما فعلت "جلّنار" القادمة من قعر
المجتمع والباحثة عن اللذائذ، والتي ينتهي أمرها إلى تنظيم ثورة الرعاع الذين
يقضون على الملك وعلى حاشيته، بما فيهم "جلّنار" نفسها.
خامسًا: بين العامة والخاصة فجوة لا تندمل، وكأنهما مثل الزيت
والماء لا يختلطان؛ ففاروق الذي ارتمت الأميرة نورهان في أحضانه عاشقة متيّمة، ثم
سلّمته مُلك والدها، لم يكن مندفعًا إليها وبقي حذرًا منها؛ لأنها لم تدخل إلى
عالمه، فكان قلبه يحدثه بالقول: "أتدرك الآن لماذا لم أخفق –أي القلب- لها
بشدة؟" (ص: 117)،
وكذلك قوله عنها: "إنها فاتنة.. لكنّها لم تُحدث فيك ذاك الجرف" (ص: 124). ويقابل ذلك أن
فاروق-الملك يندفع بحبه نحو ابنة مجتمعه وبيئته "نجلاء"، فيهاتفها ويقول
لها: "أنت من سكنتني قبل أن أولد" (ص: 344).
أخيرًا،
هذه هي رواية "صدأ التيجان" التي تثأر لوطن
يتم اغتياله –كل يوم- من قبل قلّة تقطن برجًا عاجيًا تطل منه على شعبٍ أفقرته وامتصت
دمه، لتحيله إلى رحيقٍ يعزز ساديتها، وأفرداها من قاطني القصر يتآمرون –كل على
الآخرين- بلا وازع من ضمير. ولعل أكثر ما يؤلم في المشهد عبارة: "ملوك
العرب لا يعاهدون الله أمام الشعب وإنما يتسلمونه كملكيّة"! (ص: 29). وأما صدأ الأشياء
فيكون عندما لا تخلّف أشخاصًا يحبونها (ص: 219)، فلهذا تصدأ التيجان.
لقد وجدت في هذه الرواية إضافة نوعية إلى عالم الرواية
العربية والمكتبة العربية التي تكاد تخلو من روايات تخترق "تابوهات"
السياسة والحكم، لكي يأخذ الشعب دوره في حكم نفسه بنفسه، بدل أن يبقى مكانه شاغرًا
في احتفالات الحكام عند تبادلهم للعرش.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 19/06/2017م