روايته "نرجس الغربة" لكاتبها باسم خندقجي: تحتفي بالمرأة والشعر.. وتكشف الغطاء عمن تنكّر لمبادئه وعمل ضدها بقلم: عزيز العصا

روايته "نرجس الغربة" لكاتبها باسم خندقجي:

تحتفي بالمرأة والشعر.. وتكشف الغطاء عمن تنكّر لمبادئه وعمل ضدها 

نُشِرَ في صحيفة القدس، بتاريخ: 10/06/2017، ص: 16

                                                         عزيز العصا

http://alassaaziz.blogspot.com/

aziz.alassa@yahoo.com

باسم محمد صالح أديب خندقجي؛ شاب فلسطيني ولد في نابلس في العام 1983؛ فتح عينيه على الانتفاضة الفلسطينية الأولى "انتفاضة الحجارة"، ولم يكد يدخل المراهقة حتى هبّت رياح الانتفاضة الثانية "انتفاضة الأقصى". خرج من الأولى وهو قارئ نَهِم يحمل كتابًا يبث من خلاله الفكر والثقافة الثورية بين أترابه وينير الدرب نحو الحرية والتحرر من ربق المستعمر، وخرج من الثانية وهو يحمل بندقية ينافح فيها عن شعبه ويثأر لدماء الشهداء من الأطفال والشيوخ والنساء والرجال.

منذ العام 2004 يربض "باسم خندقجي"  في سجون الاحتلال لقضاء ثلاثة مؤبدات، هي حكم جائر من احتلال ظالم، يعتقد بأنه سينال من عزيمة باسم ورفاقه. فرد "خندقجي" على ذلك بأن ركّز جهده في القراءة النقدية المتمعنة لما بين السطور، واستل قلمه فأشهره في وجه الاحتلال وفي وجه الجهل والتخلف في آنٍ معًا، عبر الأجناس الأدبية المختلفة: رواية وقصصًا، شعرًا ونثرًا، فامتاز باحثًا وأديبًا جريئًا ومقاومًا، رافضًا لكل أشكال الخنوع والتبعية والمساومة على الثوابت الوطنية.

وأما العمل الأدبيّ الّذي نحن بصدده لـ "باسم خندقجي" فهو روايته "نرجس الغربة"، صدرت في العام 2017 عن المكتبة الشعبية ناشرون في نابلس، وصمم غلافها "كامل قلالوة". تقع الرّواية في (169) صفحة من القطع المتوسّط، يتوزع عليها خمسة فصول، لكل فصل عنوان يشير إلى ثيمة جزئيّة تشكّل، في مجموعها، فضاء النص الذي يقف وراءه سارد حاول أن يبدو محايدًا إلا أنه كثيرًا ما يزج بنفسه في الأحداث، ويدلي بوجهة نظره محللًا و/أو مفسرًا.

تبدأ الرّوايّة بعتبتها الأولى بعنوانها "نرجس العزلة"؛ وهما مفردتان لا يمكن لإحداهما أن تذوب في الأخرى: فالنرجس نبات جميل، منه النرجس الكاذب والنرجس الرقيق والنرجس الشاعري. والنرجسية تعني اتصاف الشخص بالأنانية والغرور والشعور بالأهمية. والعزلة أو الاعتزال تعني الشعور بالظلم والابتعاد عن المحيط الاجتماعي، وقد تصل حد الاغتراب والانفصام عن المجتمع. أي أن "باسم خندقجي" لم يجعل عنوان روايته مركب من مرضين أو اضطرابين، وإنما أبقى على "نرجس" ليفتح الباب مواربة أمام شيء من الجمال وسط غمام العزلة وضبابيتها، علمًا بأن العزلة، وفي نهاية المطاف، تجعل النرجس نرجسيًا (ص: 93).

وأما غلاف الرواية، فقد جاء متكاملًا مع العنوان، إلى حد كبير، فهو يحمل سيميائية تشي بما ينتظر القارئ من أحداث؛ حيث الألوان "الباهتة" والمتاهات والمسارات اللولبية والأيدي التي تتضافر فيما بينها لتدفع البطل نحو ضوء في آخر نفق "العزلة".     

بذلك، يكون الكاتب قد فتح الباب أمام القارئ ليغامر في الدخول إلى النص، سعيًا للتعرف على ثيمة "قضية" الرواية وشخصياتها وعقدتها وحبكتها وسير الأحداث فيها، ومدى انعكاس صورة الأسير والزنزانة والمحقق ورفاق السجن في ثنايا النص.

تقوم الثّيمة "القضيّة" الرّوائيّة الرئيسيّة، لرواية "نرجس العزلة"، كما رأيتها، على النقد اللاذع للواقع الفلسطيني؛ سياسيًا واجتماعيًا وإعلاميًا وتكنولوجيًا، ويمرر بين ثنايا النص بعض الصور والمشاهد التي تشير إلى التراجع عن المبادئ التي كان يلمحها بين الحين والآخر، ويرسم ذلك من خلال يوميات شاعر يتجول بين أروقة مجتمعه وأزقته، ويستكشف أسراره وخصوصياته التي استجابت للتغيرات الدراماتيكية الكبرى التي اجتاحته نتيجة الانتفاضتين: الأولى والثانية الموصوفتان أعلاه. ويتكون هيكل الرّواية من بنيتين، هما:

البنية المكانيّة: والّتي تتمثّل، بشكل رئيسٍ بمدينة نابلس (ص: 120)، التي سعى إلى "أنسنتها" بقوله: المدينة التي حرمتك من الشعر، من شدة مراهقتها وهرولتها نحو الإسمنت وأبراج البلوغ السريع (ص: 13)، وقوله: "مدينة من جبليْن، نهدان مكتنزان بالنور والنار" (ص: 18)، وهي "مدينة من عادتها السير بكامل كسلها وبطئها" (ص: 41). والمكان سبب له التيه وعدم القدرة على التركيز، حتى أنه يجد نفسه "شاعر بلا مدينة.. بلا وطن.. وبلا شعر.. ربما" (ص: 15).

البنية الزّمانيّة: يتبين من خلال المشاهد وشخصيات الرواية ومستوى التكنولوجيات التي يستخدمها البطل كالحاسوب والانترنت والشبكة العنكبوتية والفضائيات والاستماع إلى المطربة الشابة "سناء موسى" التي بدأت شهرتها في العام 2009 (ص: 114-115)... الخ، أن البنية الزمانية للرواية قد تركزت على الفترة الواقعة بين العام 1987 حيث الانتفاضة الأولى، ثم الانتفاضة الثانية في العام 2000، وصولًا إلى زمن ملاصق لزمن إصدار الرواية في العام 2017. فالبطل الرئيس "لم يشهد النكبة ولا النكسة، وفي حصار بيروت (1982) كان في وجع البلوغ (ص: 63)، عندما اندلعت شرارة انتفاضة الحجارة كان على عتبة التخرج (ص: 45).

وليس ببعيد عن الزنزانة وأجوائها، نجد الكاتب قد قام بوضع البطل في شقته لينعزل بإرادته عن المجتمع المحيط، ثم قام ببناء شخصيات الرواية التي التقطها من المجتمع، ومن خلال الأحداث التي تتراوح بين الواقعية والخيالية، وبما انطوى عليه السرد من وصف وحوار وصراع بين الشخصيات وتغذية للأحداث... الخ، بدت ملامح المجتمع فلسطينية بالكامل.

بقراءة متمعنة لهذا النص الروائي نجد أن النص الروائي مشبع بالصور والمشاهد المجتمعية التي هي أقرب بكثير إلى الواقع منه إلى التخييل. ومن تلك الصور:

أولًا: خذلان الوطن:

لقد قام السارد بكشف الغطاء عن شخصياته، ولم يتحيز لها بأن "يعقمها" ويبعدها عن مشرط النقد الجراحي-العلاجي، بل جعلها تتصرف وفق سجيتها الإنسانية؛ بما فيها من مثل وقيم، وما تمارسه من أخطاء وخطايا. وحيث الحب يسير جنبًا إلى جنب مع النضال (ص: 46). ولم يكتفِ بالنقد وتشريح المشاهد ووصف سلوكيات شخصيات الرواية، وإنما كان، في كل مرة، يذكر ويُذَكّر بالثوابت والحقوق الوطنية لمجتمع الرواية (الشعب الفلسطيني)، ويُذَكّر بتضحيات هذا الشعب التي قدمها شهداؤه وأسراه عبر الزمن.

فيرى السارد أن انتفاضة الحجارة المقدسة أُتبعت بخذلان "الجلوس مع العدو على طاولة أنيقة تتوسطها آنية زهر خائنة"، وفي ذلك وصف لاتفاقية أوسلو التي نفذها جنود الاحتلال على طريقتهم عندما فجّروا قلب صديقه أمجد في ميدان المدينة، قبل أن يعودوا إلى معسكرهم" (ص: 63).

تلك كانت أوسلو التي خطفت منه صديقه السياسي "هشام" الذي تحول من أقصى اليسار (الشيوعية) إلى أقصى اليمين (ص: 81). كما يصف المرحلة بأنها مرحلة "ضبابية الفكر والهوية"، ويصف البعض بأصحاب الدكاكين المختصة في "التمنية المستميتة" في إشارة إلى "التنمية المستدامة" (ص: 21)، التي تصرف عليها الأموال الطائلة على حساب "مساعدات!" للشعب الفلسطيني.

وفي اليوم السابع (والأخير) من عزلته يطل علينا السارد على لسان البطل بخطبة مطولة يبكي فيها "الوطن الذي يعاني الخذلان نتيجة التخبط ما الرصاصة وغصن الزيتون، ما بين فكرة التحرر والمشاريع ذات المكاتب الضخمة"، مشيرًا إلى الانقسامات بين الفصائل والأحزاب الفلسطينية، والانقسام-المأساة بين شطري الوطن، حيث "سقط الفلسطيني عن سرج قمره وهوى إلى عمق الحرام" (ص: 149-151).

ثانيًا: ملامح سيرة ذاتية:

لم يستطع السارد (الكاتب) البقاء خارج النص، وإنما أصبح جزءًا منه عندما أشار إلى قضايا وسمات تتعلق بشخصيته الحقيقية؛ أبرزها انتماءه إلى الحزب الشيوعي في مطلع عمره، حينما لم يكن يعرف أن الشمولية تقتل الورد ذبولًا (ص: 20). ثم يصف مغادرته الحزب "تاركًا رفاقه ورفيقاته في مهب الشمولية تارة، والتجديد المزيّف تارة أخرى" (ص: 21). ويشير إلى تجاربه الأولى في شرب الجعة برفقة صديقه أمجد (الشهيد فيما بعد)، والتدخين، وهو بعمر (16) عامًا، ومراوغاته في إخفاء ذلك كله عن أمه التي "تمتلك محطة إنذار مبكر كفيلة بكشف أمره وخمره" (ص: 115).     

ثالثًا: حضور المرأة بقدسية عالية:

وظّف السارد المرأة وأثرها في حياة البطل، والتي أخذت أدوارًا متعددة، وحيثما ذكرت كانت ذات أثر إيجابي؛ محبوبة وأمًا وأختًا وصديقة. وأنها تتكامل في أثرها وتأثيرها عليه؛ فهي المرأة البدء، والمرأة الهوية، والمرأة الدهشة. فكانت امرأة بدئه "اللاجئة" (ص: 129)، وكانت "حيفا" "امرأة الهوية والدهشة، والبلاد كل البلاد" (ص: 143). مما يشير إلى أن الكاتب يرى في المرأة رمزية وجوده وسعادته وانتمائه لذاته ولوطنه ولأرضه.

يقول البطل: "أنا الرجل الذي أدرك المرأة، بل اعتنقها أدعوها إلى أرجوحتي السرّية دون قيد أو شروط، هي النون التي تزدحم بها قصائدي" (ص: 145). وفي سبب عزلته يقول: "سبب ضياعي امرأة أعادتني إلى البدء، وجعلتني أستسلم مرّة أخرى للحب، وأي حب!" (ص: 114).    

رابعًا: للشعر والشعرية والشاعرية حضور طاغٍ في الرواية:

منذ الصفحة الأولى في الرواية نجدها تحتفي بالشعر وتقدمه على أي فن آخر، بدءًا من جدارية محمود درويش: هذه لغتي. وهذا الصوت وخزُ دمي... كما أنه لا تكاد صفحة تمر فيها دون الإشارة إلى الشعر والقصيدة، بشكل أو بآخر، كما جاءت عناوين الفصول أو السرديات بمفردات شعرية: تحية الورد، صدأ الأمنيات، نزف منفرد، رقصة الأبد وصلاة الوداع، وانتهى كل فصل منها بقصيدة، للحد الذي جعل الرواية تحتفي بالشعر والشاعر والشعرية. ويرى البطل في القصيدة "وطنه المؤقت"، ويقول للاهثين خلف "التمويل الغربي": "اخذلوني أكثر يا أخوتي حتى أعرّيكم واحدً واحدًا بقصائدي"،(ص: 21).

ويمكن القول، في هذا الجانب، بأنه يؤخذ على هذه الرواية أن يحتل الشعر والقصائد مساحة واسعة، إلى حد ما، قد تؤدي إلى انقطاع القارئ عن السرد وتتابع الأحداث. كما أنها تهز أركان الرواية كجنس أدبي لصالح الشعر كجنس أدبي آخر.   

الخاتمة

هذه هي رواية "نرجس العزلة" لكاتبها الأسير "باسم خندقجي"، لم يكن مسرحها السجن ولا الزنزانة، ولكنها لم تبتعد عنهما كثيرًا؛ فقد كان البطل، على مدى الرواية بأكملها، يخترق عزلته وانعزاله نحو وطنه الذي أحب والذي من أجله أفنى عمره وزهرة شبابه. وقد جعل من هذه الرواية شهادة على مرحلة أو حقبة شهدت تغييرات "دراماتيكية" كشفت عن هشاشة الفكر لدى البعض، وعن ضعف الفصائل والقوى والأحزاب في مواجهة الأزمات الكبرى والمصيرية التي تعرض لها الوطن الفلسطيني.

وفي محاولة جادة من الكاتب، نجد أجواء الحب والحرب قد التقت فيها واجتمعت بين دفتيها. كما نجد أن للشعر وللمرأة حضورهما الذي يُخرج البطل من أجواء الإحباط المميت، ويعيد إليه أنفاسه التي يكاد يفقدها في لحظة من الغضب والحنق على وطن تم خذلانه، وعلى شهيد تُركت أمه تندبه وحدها، عندما انفض رفاقه كل إلى مراده!

بقي القول: إن لم تكن هذه الرواية من أدب السجون التي توظف السجن وأحداثه، فهي من أدب الأسرى الذين يشتتون ظلمة السجن ووحشته بأقلامهم وهم يستحضرون وطنهم وقضايا مجتمعهم، ويحلقون عاليًا في فضائه، كي يكملوا مشوارهم في الدفاع عنه وحمايته من كيد المعتدين.

فلسطين، بيت لحم، العُبَيْدِيّة، 21/05/2017م