التكايا:
تاريخ يتم إحياؤه بكفاءة عالية
-تكية "ستنا مريم"
في بيت لحم
أنموذجًا-
نُشِر في صحيفة
القدس المقدسية، بتاريخ: 25/06/2017، ص: 14
عزيز العصا
لا شك في أن للزكاة والصدقات الدور الأكبر والرئيس في تسيير
اقتصاديات الأمة، وهي التي يعتمد عليها في التخطيط الاستراتيجي للدولة. فهي عبادة
مالية، يجب تأديتها خالصة لله تعالى، وليست منّة من الغني على الفقير. وللزكاة
شروطها الدقيقة، التي لا يجوز خدشها أو التهاون فيها، ولها نظم خاصة بها، مثل: القاموس الزكوي، وفقه موارد
الزكاة، وفقه مصارف الزكاة، ومحاسبة الزكاة[1].
وهذا ما دأبت عليه الدول العربية والإسلامية؛ بإنشاء مؤسسات خاصة للزكاة.
كما أن الصدقات، بأنواعها وأشكالها وطرق تأديتها، تشكل رافدًا مهمًا من
روافد الأمن المجتمعي، وتشكل متَّكأً مهمًا من متّكآت الدولة. وبمرور الزمن تطورت
أشكال آليات تأدية الصدقات من المتصدقين إلى المحتاجين، وأصبح الحكّام ينوّعون
فيها ويبتكرون في طرائق تأديتها. ففي العصر العثماني ظهرت التكايا -مفردها
تكية-، كانت تهدف إلى إيواء الدراويش وأبناء السبيل والفقراء والمساكين وإطعامهم
من ميزانية حُبِست (أو أوقفت) لهم.
بمرور الزمن،
وبعد أن أصبحت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني، ولما تعرضت له من صراعات وعدم
استقرار، تعرضت التكايا لتغيرات في مفهومها، حتى أصبحت لا تتعدى كونها "مطابخ
خيرية". إلا أنه يلاحظ منذ بضع سنوات أن المحافظات الفلسطينية المختلفة، تشهد
عملية إحياء للتكايا لتوفير الطعام والكساء للأسر الفقيرة في مناطقها.
وقد قدّر لي في
يوم رمضاني -10 رمضان 1438هـ، وفق 5 حزيران 2017-
المكوث لفترة زمنية في واحدة من تلك التكايا، وهي تكية "ستنا
مريم" في بيت لحم، والتي يقوم عليها "لجنة التكافل الإجتماعي"؛
والتي يتوزع أعضاؤها على المؤسسات والأطياف والركائز المجتمعية في المحافظة. ولا
شك في أن لتسمية هذه التكية دلالات تشير إلى أن هذه التكية مخصصة لخدمة فقراء
المحافظة، من أبناء الديانتين الإسلامية والمسيحية الذين يجمعون على أن "ستنا
مريم" هي رمز الطهارة والصدق والإخلاص والوفاء.
كما أن ما يشرح
الصدر ويريح البال، ويشكل سابقة وأنموذجًا حيًا للعمل الخيري، أن من يقود العمل في
هذه التكية محافظ المحافظة اللواء "جبرين البكري" شخصيًا؛ فقد أوجد
لنفسه مكتبًا في هذه التكية أحاله إلى ما يشبه غرفة عمليات، يعمل من خلاله على
متابعة احتياجات ومتطلبات تسيير التكية، يوميًا، لكي توفر (5,000) وجبة لعائلات،
من المسلمين والمسيحيين، اكتوت بنيران الفقر حتى وصلت مستوى "الفقر
المدقع"، والتي يقدرها "البكري" بحوالي (15,000) فرد في المحافظة. كما
أن هناك
من يوقف "ذبائح" كاملة ويشترط إيصالها إلى محتاجيها كلحوم
طازجة، فيتم توزيع اللحوم إلى عدد من العائلات، بمعدل حوالى (5) كلغم لكل عائلة. ويُضاف
إلى ذلك إيصال التبرعات العينية التي تصل إلى التكية لمحتاجيها.
لا يتوقف الأمر
عند الفقراء والمحتاجين، وإنما يتعدى ذلك إلى الفئات الأخرى ممن ينطبق عليهم قوله
تعالى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 60). وعندما تابعتُ الشرائح والفئات التي يتم
توجيه الصدقات لها، وجدت أنه إلى جانب الفقراء والمساكين والعاملين عليها، هناك
اهتمامًا واضحًا بفئة ابن السبيل؛ وهم أولئك المنقطعون عن أهليهم وأسرهم،
كالقادمين من المحافظات البعيدة كمرافقين للمرضى الذين يقيمون في مستشفيات
ومستوصفات المحافظة. كما أن هناك اهتمامًا بالفقراء من الحجاج المسيحيين القادمين
إلى كنيسة المهد.
ورغم
أن متطلبات الأكل في شهر رمضان تتضاعف، إلا أن نوعية الأكل والوجبات التي يتم
تقديمها يتم تجهيزها وترتيبها كما هي الوجبات المنزلية الخاصة؛ بعيدة كل البعد عن
الفوضى التي تحل على حالات طبخ الكميات الكبرى. فقد دخلنا إلى المطبخ وتواجدنا فيه
لفترة غير قصيرة ونحن نتمتع برائحة ونكهة ما يتم طبخه من لحوم وأرز.
وحول
كيفية توزيع الوجبات، فإنها تتم وفق آلية منتظمة ومنضبطة، وبعيدة عن فوضى التزاحم،
بحيث
أنه يتم استقبال المستفيد عن باب التكية وإعطائه رقم، ثم يجلس على كرسيه، في
جو مريح، حتى يصل دوره فيتناول الوجبات التي يطلبها، ويغادر بكل هدوء واحترام. وفي
هذا الجانب أكد عطوفة المحافظ "البكري" أنه يتم تسليم المستفيد وجبات
بالعدد الذي يطلبه دون تشكيك في مدى صدقيته. وأما بشأن الكميات الزائدة، فلا يتم
وضعها في الثلاجات، وإنما يقوم فريق المتطوعين القائم على المهمة بتوزيعها على
المحتاجين تحت جنح الليل.
أما
من يقوم بمهمة المتابعة والتنفيذ، فإن اللواء البكري يقود فريقًا من المتطوعين من
أبناء المحافظة الموزعين على شرائح مجتمعية مختلفة؛ من الطلبة والأطباء والمهندسين
والمحامين ورجال الأمن.
بقي القول بأننا أمام أنموذج يحتذى على مستوى
الاهتمام بالفقراء والمساكين وبقية الشرائح التي يجب أن توجه لها الصدقات؛ عندما
يكون رأس الهرم السياسي والأمني في حالة يقظة تامة اتجاه مجتمعه الذي يتحمل أمانة
قيادته، كما أن الوجه الآخر للأنموذج يتمثل في
شرائح المتطوعين ومستوياتهم الذين
يستجيبون لنداء الحاجة الصامت، بل المخنوق، الذي يطلقه فقير جائع، أو مسكين ضاقت
به الدنيا، أو عابر سبيل انقطع عن أهله وذويه!
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 15 حزيران، 2017
[1] انظر: "موقع الإسلام
الدعوي والإرشادي"/ وزارة الشؤون الإسلامية والوقف والإرشاد (آخر مشاهدة
06/04/2016م):
إرسال تعليق Blogger Facebook