عبد الله البديري قبل ثلاثين عامًا:
حكومات القش والنكسة.. والظلم من صنع المظلوم!
نُشِرَ في صحيفة القدس، بتاريخ: 05/06/2017، ص: 15
عزيز العصا
عبد الله توفيق البديري؛ هو أحد أحفاد العلّامة الشيخ شمس الدين محمد بن بدير المقدسي المولود في القدس عام 1747م والمتوفى فيها في العام 1805م. ومما ورثه عن جدّه العلّامة هذا مكتبة تضم ما يزيد عن تسعماية مخطوط تبحث في موضوعات مختلفة، أغلبها في العلوم الدينية واللغة العربية. تعرفت على "عبد الله البديري" في العام 2009، فوجدته ذلك المفكر القابض على المعرفة الواسعة والمتعددة الأبعاد كالقابض على الجمر، وقد حالفه الحظ بأن انفتح أمامه خلال الفترة (1985-1992) منبر إعلامي هو "مجلة البيادر السياسي-المقدسية، فشغل فيها ثلاث زوايا، في آنٍ معًا، هي: "على الطاير"، و"من بيت النار" و"تعليقات سريعة/ قطوف وتأملات"، نشر فيها (955) مقالًا.
قبل ستة أعوامٍ، بالتمام والكمال، وبالتحديد في 05/06/2011، غادرنا "البديري" إلى الدار المستقر، انطلاقًا من البيت الذي ورثه عن جده المذكور في باب الناظر –أحد أبواب المسجد الأقصى المبارك-. وقد دأبتُ على أن أقوم في ذكرى وفاته السنوية بتصفح أرشيف مقالاته قبل ثلاثين عامًا؛ لكي أرصد مدى التغير أو الثبات الذي قد طرأ على القضايا والمواضيع التي كان يتناولها "عبد الله البديري" بقلمه: وصفًا وتعليقًا وتشريحًا... الخ.
وعندما شرعتُ، هذا العام، في تقليب مقالاته المنشورة في العام 1987، توقفت مطولًا عند مقاليْن، هما: "حكومات من قش" و"فلسفة على الخفيف". وليس ببعيد عنه يقول في إحدى "تعليقاته السريعة": الظلم من صنع المظلوم قبل أن يكون من صنع الظالم. والظلم حين تشتد وطأته تبدأ نهايته؛ لأن الخائفين والمتخاذلين الذين كانوا يسمحون له بالبقاء سيضيقون به ذرعًا ذات يوم، فتواتيهم شجاعة اليأس، فيخاطرون من أجل انعتاقهم مخاطرة تدك جدران الخوف وتحطم الأغلال.
لقد اشتهر البديري في زاويته "بيت النار" بإيراد قصة من عمق التاريخ؛ لكي يتكئ عليها في التوصل، بصحبة القارئ، إلى الهدف الذي يصبو إليه بسهولة ويسر. ففي مقالته الأولى أورد البديري في العدد -31- من البيادر السياسي بتاريخ 27/12/1986، أورد حوارًا مطولًا وحامي الوطيس بين معاوية بن أبي سفيان و"جارية بن قدامة السعدي" أحد رجالات علي بن أبي طالب، بحضور ثلاثة من وزراء الروم –كانوا في مجلس معاوية-، انتهى بقول "جارية" لـ "معاوية": "(...) وقد أعطيناك سمعًا وطاعة على أن تحكم فينا بما أنزل الله، فإن وفيت بذلك وفينا لك، وإن ترغب عنه فإنا تركنا رجالًا مدادًا وأذرعًا شدادًا ما هم بتاركيك تتعسفهم أو تؤذيهم (...) ثم خرج " جارية" غاضبًا من المجلس دون أن يستأذن".
عندما لاحظ معاوية الهلع والاستياء على وجوه الوزراء، توجه لهم يصف استراتيجيته في الحكم، ومما قاله: "(...) كل قومي كهذا الأعرابي؛ ليس فيهم واحد يسجد لغير الله، وليس فيهم واحد يسكت على ضيم، وليس لي فضل على أحد منهم إلا بالتقوى"، فبكى أكبر وزراء الروم، وعندما سأله معاوية عن سبب بكائه قال: " (...) أما وقد رأيت في هذا المجلس ما رأيت، فإنني أخاف أن تبسطوا سلطانكم على حاضرة ملكنا ذات يوم". ويكمل البديري: "وجاء ذلك اليوم؛ فقد تهاوت (بيزنطة) كبيت من القش في يوم عاصف".
وفي في مقالته الثانية "فلسفة على الخفيف" الواردة في العدد -34- من البيادر السياسي بتاريخ 30/01/1987، أورد بأن "قاطع طريق يدعى "بروكوست" كان مولعًا بالقياس، فكان يهاجم الأفراد والجماعات على الطرق، وبعد أن يصادر ممتلكاتهم يسوقهم إلى مغارته وهناك يضعهم على سرير نومه الحديدي، فإذا كانوا أطول من السرير قصّ أرجلهم، وإذا كانوا أقصر من السرير شدّ رؤوسهم وأرجلهم بالحبال حتى تتساوى أجسامهم مع طول السرير".
ونحن في أجواء الذكرى الخمسين، لا بد من أن نشارك البديري الرأي في تساؤلاته عن أوجه الشبه بين أنظمة الحكم في أمتنا وحكوماتنا "المعاصرة" وبين "بروكوست" المذكور، وأوجه الاختلاف مع استراتيجية معاوية في الحكم. فإذا عارضهم أحد قطعوا عنقه وأزالوه من الوجود؛ لأنه يختلف مع مقاييسهم المحددة، وإذا أيدهم أحد "استأـجروا" عقله وسلبوا إرادته لكي ينضبط تمامًا على مقاسات أسرّتهم السياسية والاقتصادية والأمنية، بما يخدم النظام الحاكم ويعزز طغيانه على حساب حاضر الأمة ومستقبلها.
لو عاد اليوم الوزير الرومي، وجلس في حضرة أي من حكامنا لضحك حد الإغماء؛ فرِحًا لحال الأمة التي أصبح أبناؤها يسجدون لغير الله، وكل من يرفع صوته في وجه الضيم يتم محوه روحًا وجسدًا لضمان القضاء عليه وعلى ذريته حتى أحفاد أحفاده، وأن الحاكم فوق الجميع، وأنه لم يعد للتقوى فضل في حياة الأمة.
كما أن واقعنا يؤكد أن الشعوب هي من صنعت الظلم لنفسها؛ بسكوتها على الضيم والقهر والتساوق مع شعارات ثبت فراغها من مضمونها وأخطرها، من وجهة نظر البديري، شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، الذي تم توظيفه لتغييب العقول وإغلاق الطريق أمام سبل التقييم والتقويم، للتعرف على الظروف الموضوعية المحيطة، ودراسة مدى القدرة على الهجوم والصمود والمواجهة من أجل تحقيق الانتصار الذي انتظرته جماهير الأمة من المحيط إلى الخليج.
ولعل السؤال الأخطر، والأكثر إلحاحًا للإجابة عليه الآن –بعد مرور خمسين عامًا، هو السؤال الذي يطرحه المرحوم شفيق الحوت في مذكراته "بين الوطن والمنفى - من يافا بدأ المشوار" الصادر عن مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية برام الله في 2015 (ص: 161): "اللغز الذي لم أستطع تفسيره حتى الآن، هو كيفية وقوع عبد الناصر في فخ حرب 1967، وهو الذي قال حرفيًا، قبل ثلاثة شهور أنه لن يخوضها إلا لينتصر، وأنه بحاجة إلى ثلاثة أعوام لتوفير شروط هذا النصر"؟
لقد تمت الإجابة على سؤال الحوت أعلاه وفق مقياس "بروكوست" الذي بناءً عليه تلاعب الإعلام الحاكم بالكلمات؛ فأطلق على الهزيمة النكراء "نكسة" ولم يعترف بأننا نحن من كنا في موقف (بيزنطة) عندما تهاوت دفاعاتنا كبيت من قش، لأن حكوماتنا كانت من قش، ولأن الظلم هو السائد في كل تفاصيل حياتنا.
بمرور الزمن، اشتد الظلم وازدادت وطأته فبدأت نهايته؛ لأن الخائفين والمتخاذلين الذين كانوا يسمحون له بالبقاء ضاقوا به ذرعًا، فواتتهم شجاعة اليأس، وخاطروا من أجل انعتاقهم مخاطرة حاولت دك جدران الخوف وتحطم الأغلال، إلا أن الاستعمار والامبريالية كانا يقفان من كل ذلك بالمرصاد؛ فسارعت قوى البغي إلى القضاء على العراق المرابط على البوابة الشرقية للأمة، والرافض لكل أشكال الضيم والظلم، وركبت موجة الثورات العربية وأمسكت بشراعها لتوجهها نحو "ربيع عربي" يخدم مصالح تلك القوى التي تسعى إلى السيطرة على مقدرات الأمة.
قبل المغادرة، ولكي لا يبقى الجزء الفارغ من الكأس هو السائد، لا بد من الإشارة إلى أن الواقع يشير إلى ألمٍ ووجع مقاييس "بروكوست"، إلا أننا نرى في المستقبل القادم أن هذه الأمة حية لن تموت طالما أنها تلد "قوم معاوية"؛ الذين لا يسجدون لغير الله، الأحرار الرافضين للظلم والضيم والقهر والاستغلال.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 04 حزيران، 2017
إرسال تعليق Blogger Facebook