صبحي فحماوي في روايته "الأرملة السوداء": بين الواقعية والتخييل خيط رفيع.. والعقدة عكس السّير الروائي بقلم: عزيز العصا

صبحي فحماوي في روايته "الأرملة السوداء":

بين الواقعية والتخييل خيط رفيع.. والعقدة عكس السّير الروائي

نُشِرَ في صحيفة القدس، بتاريخ: 03/06/2017، ص: 16

                                                         عزيز العصا

http://alassaaziz.blogspot.com/

aziz.alassa@yahoo.com

تقديم

صبحي أحمد فحماوي؛ فلسطيني المولد، أطلق صرخته الأولى إبّان النكبة التي مني بها الشعب الفلسطيني في العام 1948. كما باقي أبناء شعبه، نفض عن نفسه غبار الهزيمة والتشرد وانطلق نحو طلب العلم والمعرفة، فتخصص في هندسة الحدائق حتى درجة الماجستير.  كما جمع بين الأدب والعلم ليشكل سيمفونية جميلة تتكامل فيها الحركات بما يريح البال وينعش الفؤاد؛ فهو روائيّ وكاتب قصّة ومهندس حدائق بارع في آنٍ معا.

ولا يمكن مغادرة التعريف بهذا الروائي-المهندس أو المهندس-الروائي قبل الاعتراف بدوره التطوعي في إيجاد صفحة على التواصل الاجتماعي (أخبار الرواية)، جمعت روائيي الأمة العربية على مائدة واحدة؛ قرّبت المسافات بينهم حتى المسافة "صفر" -رغم الجغرافيا المتباعدة- واخترقت الحدود لحد التلاشي[1].

وأما العمل الأدبيّ الّذي نحن بصدده لـ "صبحي فحماوي" فهو روايته "الأرملة السوداء" الّتي تأتي بعد إصداره لعدد من الروايات والمجموعات القصصية. صدرت هذه الرواية، بطبعتها قيد النقاش، في العام 2015 عن وزارة الثقافة الأردنية/ مكتبة الأسرة الأردنية/ مهرجان القراءة للجميع. تقع في (258) صفحة من القطع المتوسّط، وتتألف من أربع وعشرين محطّة سرديّة. وكل سردية هي لوحة فسيفسائية من لوحات الرواية لها عنوان يشير إلى ثيمة جزئيّة تشكّل، في مجموعها، فضاء النص الذي يقف وراءه سارد قام بتوجيه الشخصيات وإنطاقها حتى نهاية الرواية.

تبدأ الرّوايّة بعتبتها الأولى بعنوانها "الأرملة السوداء" وبغلاف صممه الفنان الأردني "نائل هودلي"، يحمل لوحة للفنّانة الأردنية بسمة النّمري. يحمل الغلاف ملامح النّصّ الرّوائيّ؛ ملامح بشرية في حالة من التناقض والتضاد والتداخل والتلاصق في آنٍ معًا. لقد حمل العنوان والغلاف سيميائيّة تنبئ عن نص مشوِّق يغري القارئ للدّخول في (مغامرة) القراءة، عندما اختزل الكثير من المضامين الثّانويّة في الحكاية، والّتي تلهب خيال القارئ وتغريه باقتناء العمل وقراءته[2].

إذا كان لمفردة الأرملة لوحدها دور في ذلك التشويق، فإن إضافة "السوداء" فتح الباب على مصراعيه للقارئ ليشبع فضوله في تتبّع أحداث "الأرملة السوداء" التي تأخذ معنى مركبًا من امرأة فقدت زوجها، ومن عنكبوت الأرملة السوداء السامة، الذي تعيش أنثاه ثلاث سنوات بينما الذكر لا يعيش أكثر من شهر أو شهرين؛ ويعود ذلك إلى التزاوج "الدموي" لعنكبوت الأرملة السوداء، إذ عادة ما تقوم الأنثى بقتل الذكر بعد التزاوج وأكله[3].

  تقوم الثّيمة "القضيّة" الرّوائيّة الرئيسيّة، لرواية "الأرملة السوداء"، على "عقدة رجل" ضد المرأة، الذي يرى المرأة متجبرة ومتحكمة في تفاصيل حياة الرجل مهما صغرت أو كبرت. ويذكرنا السارد بـ "عقدة المرأة" ضد الرجل: "كانت شهرزاد تخاف ذلك الديك الحارس (الذكر)، والذي إذا صاح في الصباح، توقفت عن الكلام المباح" (ص: 29).

شرع البطل في وصف صور وأشكال التجبر والتحكم تلك، ولعلّ ما يؤكد عقدته وصفه للظلم الذي وقع على أبيه الذي "بسبب مشاحنات امرأته التي استمرت تناكفه إلى أن فقع مقهورًا" (ص: 111)، وهي التي "كانت تدفع زوجها إلى الأشغال الشاقة في السوق، وهي تعمل على مهلها في ظلال بيت لا ترى فيه شمسًا ولا زمهريرا" (ص: 101).  كما امتدت عقدة البطل حتى وصلت إلى ذكور الحيوانات التي أصبح ذبحها يحاصره، حتى "صار يشعر بخوف عظيم إذ يرى نفسه ذكرًا، ولهذا توقف عن أكل اللحم وصار نباتيًا" (ص: 32). وتتُوَّج تلك المخاوف والقلق من المستقبل بتشكيل "جمعية حماية الرجل"، التي ضمت عددًا كبيرًا من الرجال المفكرين والنشطاء؛ وهدفها "حماية الرجل من الانقراض تحت ضغوطات تكاليف الحياة، التي يخيل أن المرأة ترفض تحملها، فيحملها الرجل بغبائه وغروره وإسرافه على نفسه!" (ص: 170).

تبدو هذه الرواية في قضيتها -عقدتها وحبكتها وسير أحداثها- وكأنها تسير عكس السير؛ في أجواء الروايات التي تتزاحم في وصف الظلم الواقع على المرأة من الرجل. ويتكون هيكل الرّواية من بنيتين، هما:

البنية المكانيّة: والّتي تتمثّل، بشكل رئيسٍ في العاصمة الأردنية عمان، في مخيم الوحدات للاجئين وجبل الأشرفية ومستشفى البشير: "أكوام من غرف سكنية طوبية شاحبة متراكمة فوق بعضها بعضًا، والملابس منشورة على حبال الشرفات الطوبية، وبطانيات وكالة الغوث تتدلى من إحدى الشرفات المكسرة حوافها، وهي تنقط ماءً على الدكان الذي تحتها" (ص: 31)، ثم ينتقل للسكن تحت النادي الأرثوذكسي في عبدون (ص: 149)، ويذكر المدن الأردنية المختلفة: صويلح، الزرقاء، جبل النظيف، طلعة المصدار، مأدبا، عبدون.

لقد كان للمكان وهندسته وتزاحم المباني طغيانه في تطور شخصية البطل الذي نشأ في مخيّم للاجئين؛ مزدحم المباني يكد فيه الرجل لينتج وتأخذ المرأة دور المستهلك لكل ما ينتجه الرجل، وبلا هوادة.    

البنية الزّمانيّة: حيث تدور أحداث الرواية في القرن العشرين، الذي شهد على عذابات اللاجئين الفلسطينيين وتشردهم، حتى ظهر جيل تحدى الصعوبات؛ فتعلم وامتلك الخبرة الكافية التي تجعله صانع قرار في المجالات الحياتية المختلفة، وحتى من لم يتعلم أبدع في التجارة وامتلك المال الكافي لتغيير حياته نحو الأفضل. وتمتد أحداث الرواية إلى القرن الحادي والعشرين، إذ يذكر حصار كنيسة المهد في العام (2002) (ص: 119).

رواية تحتفي بالرواية.. وتزخر بالمعلومات والمعرفة

لقد أبدع الكاتب في اختيار هذه العقدة الروائية، وأكد إبداعه في توظيف المعرفة التي ترفع المستوى الثقافي للقارئ؛ من خلال المعلومات التي تمكن الكاتب من "تمريرها" بين ثنايا النص بسهولة ويسر، وجعل من الروايات مصدرًا للمعلومات والمعرفة؛ إذ يستشهد بالعديد منها، بل يقتبس منه. وفي ذلك إشارة من الكاتب إلى أهمية الرواية ودورها في صياغة شخصية القارئ، حتى أن بطل الرواية "شهريار" "فأر كتب روائية" (ص: 226)، وأنه "عاش نصف عمره الأخير محبًا للرواية والأدب" (ص: 139)، وبطلة الرواية "شهريار" "تحب قراءة الرواية خاصة إذا كانت عباراتها شعرية، وفيها مجاز وخيال مجنح" (ص: 177) ومن الروائيين الذين يستشهد بهم: جورج أورويل (متشردًا في باريس ولندن)، جونتر جراس (قط وفأر)، عزة رشاد (ذاكرة التيه)، نجيب محفوظ (عبث الأقدار)، ورواية (بوح نساء الحرملك)، تسليمة نصرين (العار).

ويمكن الإشارة إلى المعلومات التالية التي التقطتها في هذا النص الروائي:

1)    وصف رحلة العذاب اليومية التي كانت يحياها أفراد الأسرة الفلسطينية، بخاصة رب الأسرة، الذي شردوا من بيتهم وفقدوا أرضهم، وألقي به في مهاوي الفقر والفاقة والعوز. منشأ جيل منهم فقد فرصته في التعلم (ص: 23).

2)    ينتقد النقاب (الخمار) الذي تلبسه المرأة؛ لما له من أثر سلبي على صحتها؛ بسبب اضطرارها لاستنشاق ثاني أكسيد الكربون الذي يخرج من فمها (ص: 41).

3)    رغم الموقف السلبي من المرأة، إلا أن البطل بقي على قناعة بأن لا حياة له "كاملة" بلا امرأة، ويرى في احتضانها أنه سيشعر "أنه في حمى من السقوط في فم الغيب" (ص: 71). ولا يستطيع الرجل العيش دون امرأة إلا إذا كان التكاثر يتم بالأنسجة (ص: 212).

4)    البكاء يريح الأعصاب المتعبة، فيعيش المرء عمرًا أطول (ص: 81).

5)    "الاكتئاب من المشاكل الصحية الرئيسية، ونسبة إصابة النساء به ثلاثة أضعاف إصابة الرجال" (ص: 131).

6)    المدخنون هم مرضى الإدمان، و تكمن الخطورة في تجربة السيجارة الأولى، والتي تشبه طُعم صنارة السمك، ومتى شبكت الصنارة، فإن السمكة تصير أسيرة الخطاف!" (ص: 177).

7)    المرأة تتكلم (18,000) كلمة في اليوم، والرجل يتكلم (8,000) كلمة في اليوم؛ لأن الرجل يعبر عن عواطفه بالعمل، بينما المرأة تعبر عن عواطفها بالكلام (ص: 205).

الخلاصة والنهاية السعيدة

هذه هي رواية "الأرملة السوداء" تفصح عن أسرار الرجل والمرأة، وقد تميزت بطرح أحجية الظلم الواقع على الرجل من المرأة والتي يفصح عنها البطل بقوله: "لا تختلف علاقة الذكر بالأنثى، سواء كان إنسانًا أو حيوانًا، عن علاقة "الأرملة السوداء" بذكر العنكبوت" (ص: 143).

يحاول الرجل التحوصل حول ذاته، إلا أنه يفشل في ذلك، أو بالأحرى يتوصل إلى الحقيقة القائلة بأنه لا حياة للرجل بلا امرأة ترعاه وتدير شئون حياته؛ فتكون البطلة (شهرزاد) هي سكرتيرة "جمعية حماية الرجل"، وهي التي تديرها وتُجدول أعمالها، ثم تبادر بضم "اتحادات المرأة" إلى "جمعية حماية الرجل"، لتشكيل "جمعية حماية الإنسان" (ص: 248). وتنتهي تلك العقدة-الأحجية للعلاقة بين الرجل والمرأة بأنه "إلى جوار كل رجل عظيم امرأة عظيمة" (ص: 239).

آخر ما يمكنني البوح به، أننا أمام رواية جادة تعالج قضايا اجتماعية وسياسية، يقدمها لنا سارد لم يكن محايدًا طول الوقت، وإنما كان يوجه مسار شخصيات الرواية ويُنطقها بما يريد بصراحة ووضوح، وبانسيابية جميلة، بأن يجعلها على سجيتها الإنسانية دون أن يُعقّمها أو يتحيز لأيٍّ منها.

فلسطين، بيت لحم، العبيديّة، 24/05/2017م

---

[1] انظر الصفحة الرسمية لأخبار الرواية:

https://www.facebook.com/groups/272921042871161/?fref=ts

[2] القاضي، عبد المنعم زكريا (2009). البنية السّرديّة في الرّواية، عين للدراسات والبحوث الإنسانيّة والاجتماعيّة. ط1. القاهرة. ص: 272.

[3] http://www.universemagic.com/article/6651+black+widow+spider+facts+with+pictures+and+video