إبراهيم ملحم في "الصحافة: من البليت
إلى التابليت"
يُعنْون بسيميائية عالية.. الصورة شريك في
السرد.. يضحكنا ويبكينا.. ويوثق للمجتمع الفلسطيني
نُشِرَ في صحيفة
القدس، بتاريخ: 01/05/2018م، ص: 13
عزيز العصا
إبراهيم ملحم؛ صَحفيٌّ فلسطينيٌّ، ولد بين النكبة والنكسة؛ فلا
النكبة بأهوالها أقعدته عن الإبداع، ولا النكسة بصدماتها المذهلة منعته من
التميّز. غاص في عالم الصحافة منذ نعومة أظفاره، فغرق في وحلها عندما هبّت
عواصفها، وتمتع بظلالها عندما أورقت أشجارها وامتدت أغصانها تعانق السماء. ولأن "إبراهيم ملحم" لا يحبّ الإطالة، فإنني لن
أطيل في التعريف به، تاركًا للقارئ التعرّف عليه من خلال هذا المقال.
العمل الّذي نحن بصدده لـ "إبراهيم ملحم" هو كتابه "الصحافة: من البليت إلى التابليت"، وهو عمل
أدبيّ-صحفيّ، بحجم 330 صفحة من القطع المتوسط، يتوزع عليها ثلاثة وعشرين فصلًا، صادر
للتو في أيار من العام 2018. وقد حظيتُ بالاطلاع عليه قبيل الطباعة بقليل، لأكون
من أوائل من لامس مكنوناته وسَبَر غورها، والتي تتمثل في العديد من المواقف والمشاهد
والصور واللقطات التي تشكل، في مجموعها، وثيقة فلسطينية تضرب جذورها في مختلف
الاتجاهات لتتعدد ثمارها، وتتنوّع نكهاتها اللذيذة الطّيبة المذاق، منها:
السيميائية هي ما يعتني بكل ما يمكن اعتباره "إشارة". ففي الكتاب
قيد النقاش، نجد أن العناوين الرئيسية والفرعية، جاءت
موفقة وجاذبة للقارئ؛ لأنها جاءت موجزةً ومكثّفةً، ومنسجمةً مع النص، فشكّلت جسرًا
مشتركًا بين الكاتب والقارئ؛ ليدخل القارئ من بوّابتها متأوّلًا لها، وموظّفًا
خلفيته المعرفية في استنطاقها([1]).
كما أنني وجدت تلك
العناوين جديدة ومتجددة وجاذبة، استرجع فيها الكاتب مفردات قرآنية، وأخرى مستمدة
من التراث الشعبي، وثالثة قادمة من أمثال، وقد اختارها على مهل ليجعلها مشبعة
بموسيقى تريح البال وتنعش الفؤاد وتغري بقراءة النص.
لقد جاء عنوان "الصحافة:
من البليت إلى التابليت" وصفًا لمضمون الكتاب، وما يعنيه من الانتقال النوعي
للصحافة والعمل الصحفي من القديم إلى الحديث الذي يواكب روح العصر، فحقق -بنجاح
كبير- الوظيفة الإغرائية الجاذبة للقارئ باقتناء الكتاب وقراءته، فور استلامه.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن القارئ المتخصص في الصحافة وشئونها وشجونها، سيكون أقرب
إلى فهم ما وراء العنوان من القارئ البعيد عن شأن الصحافة ومصطلحاتها الدقيقة.
كما تآزرت سيميائية
العناوين الفرعية مع سيميائية الصور المصاحبة لها، فأشاعت أجواء من التشويق لقراءة
النصوص التي جاءت –هي أيضًا- مركّزة ومكثّفة، ليكتشف القارئ مكنوناتها الفنية والقصصية
والفكرية والمعرفية، وصولًا إلى الهدف الذي سعى الكاتب إلى تحقيقه من كل نصّ على
حدة. وانصهرت الأهداف –معًا- في بوتقة هذا الكتاب، لتبث للعالم أجمع رسالة مفادها
أننا شعب حيّ صاحب حضارة، بل صانع حضارة ليس لها مثيل؛ لأنها ثمرة تحدّيات خاضها
شعبنا تحت وابل من الموت والفقر والجوع والتشرد، الذي فرضته أعتى قوى الأرض على
شعب أعزل.
ثانيًا: في الكتاب: سيرة مهنة ومسيرة شعب
لم يكن للأنا في هذا الكتاب المساحة أو الحجم الذي
يتوقعه القارئ الباحث عن السيرة الذاتيّة للكاتب، فقد عني الكاتب بسرد الأحداث
والمواقف بنكهة قصصيّة، خالية من التعقيدات السرديّة للنصوص السّيريّة، وأينما
وردت "الأنا" كانت بدور السارد، وليس المتحكم فيها والساعي إلى ليّ
عنقها لكي يوظّفها لمجدٍ يبحث عنه على الورق.
كما أن النصوص حملت معها قافلة طويلة من الأسماء التي
تعيد رسم خريطة الوطن بكل تجلّياتها الجغرافيّة والديمغرافيّة والجماليّة. ويعود
ذلك إلى أن الكاتب –وهذا دأبه في كل ما كتب- كان من الشفافيّة والوضوح والثقة
بالنفس بما يعيد الفضل لأهله، وينسب الأفعال لفاعليها، دون أن يدّعي مجدًا أو يجعل
على قرصه نارًا تساعد على إنضاجه، قبل أقراص الآخرين، ليسد بها جوعه!
ومن أكثر ما لفت نظري تلك القائمة الطويلة من الأسماء، إذ
قمتُ بعمليّة إحصائية بسيطة –تحتمل نسبة من الخطأ الإحصائي- لحصر عددها، كما
أوردها "إبراهيم ملحم" ضمن
سياقات مختلفة في كتابه هذا، فوجدتها تزيد عن الأربعمائة، تتوزع على الجغرافيا
الفلسطينية والعائلات والذكور والإناث، ومن جميع الأعمار –من الطفل حتى الشيخ
الهرم، ومن مختلف المهن والشرائح المجتمعية.
إن في ذلك إشارة إلى أهمّية هذا الكتاب، ليكون وثيقة على
رفوف المكتبات الخاصة لأبناء هؤلاء و/أو أحفادهم المتشوقين لينهلوا من سير الآباء
والأجداد والتعرف على حياتهم والنظر في صورهم. كما أن في ذلك توثيق لسيرة شعب قبض
على جمر الوطن، فالتحم في مسيرة جادّة وفاعلة من أجل البناء والتطور والقفز على
سلّم الحضارة.
ثالثًا: تاريخ الصحافة والصحف حاضر في الكتاب
من القضايا التي تثير الشجون في هذا الكتاب، أن "إبراهيم ملحم" عرض واستعرض عشرات الصحف
والمجلات التي مرت على فلسطين والفلسطينيين، ولكنها سادت ثم بادت. كما استعرض –بالصور-
رؤساء التحرير وبعض المراسلين. ولأن لكل منا، نحن معشر القرّاء، قصة من صحيفة أو
مجلّة أو بضعٌ منها، فإن ظهورها الآن، بعد هذا الزمن، يثير الألم والحزن ويحرّك
الشجن؛ على ذكريات جميلة. ومما يؤسف له أن ينتهي أمر الصحف عندنا إلى ثلاثٍ فقط في
الضفة وواحدة في غزة!
رابعًا: اللغة الثالثة للسلطة الرابعة
كم كان جميلًا "إبراهيم ملحم"
وهو يغوص في ثنايا لغة جديدة فرضت نفسها، وأخذت حيّزًا ومكانًا بين الفصحى
والعامية. إنها تلك اللغة التي تتحدث بها الصحافة التي تحمل لقب "صاحبة
الجلالة"، وتحتل مكانة السلطة الرابعة؛ كما كرّسها "إبراهيم ملحم" في
برنامج له تحت هذا العنوان. وعندما بدأت تأخذ مكانها "عبر الأثير" اصطدمت
بمن وجد فيها محكّ في خاصرته، تكشف ضعفه والشرخ الممتد في حائطه رأسيًا وأفقيًا،
فدفع الصحفيّ الجرئ "إبراهيم ملحم"
ثمنًا –كبيرًا أو صغيرًا- لم يثنه عن الصعود حتى النهاية، وحتى الانتصار؛ لأن
الصحفيين الحقيقيين هم أول من يفتح أبواب الثورة.
لقد زال أصحاب النفس التسلطي، الذين أرادوا للصحفيّ أن يكون "شاعر
القبيلة"، وبقيت السلطة الرابعة سيدة الموقف مهابة الجانب، وبقي أصحاب الأقلام
الجريئة يخدمون الوطن والقضية، ليرثهم جيل متمرّس أكثر جرأة وأكثر إقدامًا وقدرة
على الفعل؛ فها هو "بهاء" يمتشق قلم والده ويمضي قدمًا على عهد أبيه.
لله درك يا إبراهيم وأنت تنشئ البهاء وتحمّله عبء القادم من أيام السلطة الرابعة.
خامسًا: المعرفة سيّدة الموقف
لو أـنّ "إبراهيم ملحم" أرادها
سيرة ذاتية لفعل، وهو حق لصحفي ركب مخاطر الصحافة وأمواجها الهادرة لعشرات السنين،
ولكنه أرادها سيرة شعب ومسار قضية كما ذكرن سابقًا. كم أن هناك بعدًا آخر اتّكأ
عليه هذا الكتاب-السيرة، وهو البعد المعرفيّ؛ فالأمر لا يتوقف عند المعرفة
المتعلقة بالصحافة وتطورها وأسرارها ومكنوناتها وحسب، وإنما تمكّن الكاتب، بسهولة
ويسر، من تمرير معرفة نحن بحاجة إليها في السياسة ودهاليزها، وفي الجغرافيا وفي
وسائل الاتصال والتواصل والفواصل الدقيقة بينها، حتى أنه كاد أن يرسم لنا بدقّة،
مسار القادم من التطوّر، رغم صعوبة التنبّؤ في أجواء التكنولوجيا التي تتسارع بشكل
مذهل.
سادسًا: ضحك حتى الدموع.. وبكاء حتى النشيج
إذا تركنا البكاء المواقف المبكية -وهي السائد في حياتنا- جانبًا، فإن "إبراهيم ملحم" يخصص، في كتابه هذا فصلًا،
يشكّل كلمة السرّ، جاء بعنوان "طرائف وحكايات صالة التحرير"، تضم حكايات
جميلة مضحكة، جعلتني أضحك حتى بلّ دمعي محملي، حُق لها أن تُجمع، إلى جانب حكايا
أخرى، في كتاب خاص توفر للقارئ أجواء من المرح والفرح والسرور، الذي نحن بحاجة
ماسّة له ليخرجنا من أجواء الجدّ والجدّية التي تضغط على صدورنا صباح مساء.
كلمة ختام،
إن قراءة متمعنة لهذا الكتاب تضعك أمام منهجية مختلفة في كتابة السيرة
الذاتية؛ فقد مرّر الكاتب خصوصياته الوظيفية والحياتية بين ثنايا النص، دون ضجيج
"الأنا"، فحمل معه سِيَر محيطه المهني والاجتماعي والسياسي، لمئاتٍ من
معاصريه حتى شكّلت، مجتمعة، سيرة شعب ومسار قضيّة، عبر آخر أربعين عامًا، بما فيها
من تحوّلات على المستويات كافة. كما حرص على توفير المعرفة الكافية لرفع المستوى الثقافي
لقارئ يبحث عن الجديد والمتجدد في عالم تتسارع فيه المعلوماتية وتتسع آفاقها في كل
لحظة.
ولعلّ ما يميّز هذه النصوص، المشبعة بالشاعرية، وروح النكتة والمرح:
التكثيف والإيجاز في السرد، وجعل الصورة شريكًا فيه. لأهميّة هذه النصوص، ولأن
الصورة بألف كلمة كما يذكر "إبراهيم ملحم"
في كتابه هذا، فإننا نرشح هذا الكتاب لأن يتربع على رفوف المكتبات العامة والخاصة
والمدرسية والجامعيّة، كمرجع للباحثين في الشأن الفلسطيني على المستويات المختلفة.
ختامًا، أقول: لله درّك يا "إبراهيم
ملحم" على هذا الجهد، الذي أصبح وثيقة تشهد على عصرنا، وما قمنا
به من اجتهادات، تمنحنا أجرًا أو أجريْن، فتبقى شاهدة لنا أو شاهدة علينا أمام
الأجيال القادمة، التي نرى فيها الأمل الذي افتقدناه نحن في غفلة من الفرقة
والتشرذم والضياع.
فلسطين، بيت لحم،
العبيديّة
[1] القاضي، عبد المنعم زكريا (2009). البنية السّرديّة في
الرّواية، عين للدراسات والبحوث الإنسانيّة والاجتماعيّة. ط1. القاهرة. ص: 272.
إرسال تعليق Blogger Facebook