القدس: فيها الداء وفيها الدواء!
نُشِرَ في صحيفة
القدس المقدسية، بتاريخ: 17 آذار، 2015م، ص: 17
عزيز العصا
تشير الأبحاث التاريخية إلى أن
عمر القدس يزيد عن أربعة آلاف
عام، تراكمت عبرها ثقافة وحضارة وعمران عربي-كنعاني،
تعرض للهدم والبناء ثم إعادة الهدم وإعادة البناء؛ نتيجة حروب واحتلالات معروفة
تمامًا، للمؤرخين والباحثين، لم تلغِ عروبة القدس؛ ففي كل مرة كانت تنهض وتعود إلى
سابق عهدها، كما في الحروب الصليبية وغيرها. وفي كل تلك العصور والأزمان شكلت
القدس عنق الزجاجة في الصراع القائم على هذه الأرض؛ فهي رمز للقداسة والسلطة
السياسية، وأن من يسيطر عليها يكون سيد الموقف على الأرض. وهذا ما أدركه الاحتلال
–مبكرًا- عندما رسم الخطط المحكمة المدعومة بالمال والقوة، من أجل انتزاع الملامح
والخصائص الثقافية للقدس وتنسيبها لتاريخه.
ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما قام به الاحتلال في العام
1967، عندما استولى "متحف إسرائيل" على متحف فلسطين، وأسموه متحف "روكفلر" الذي تحول إلى ما يشبه الثكنة العسكرية؛
بسبب الحراسة المشددة التي تتولاها شركة خاصة. وقد قام الاحتلال بعملية سرقة لحوالي مائتي ألف قطعة أثرية وسرقة الأجندة التاريخية، ونسبها إلى "إسرائيل". حتى وصل الأمر إلى سرقة بوابات
المسجد الأقصى، وعتبات كنيسة القيامة الرخامية، وعرضها في متحف "روكفلر"
على أنها جزء من الإرث والتاريخ الاسرائيلي[1].
أي أن هناك عملية "تهويد" للتاريخ والآثار، مهما صغرت أو كبرت، بحاجة
إلى أن يكون لنا روايتنا الوطنية-الصادقة؛ المدعومة بالوثائق التي تثبت زيف
ادعاءات الاحتلال، الذي وصل به الأمر أن يقول للزوار بأن اليهود هم من أصول
كنعانية، ولا يوجد لدى الزوار سببًا يجعلهم لا يصدقون ذلك، ففي كل المتحف لا
توجد أي إشارة أو كلمة لفلسطين أو العرب[2].
أمام
هذا المشهد الدراماتيكي، ورغم انكفاء الأمة؛ وتراجعها عن القيام بدورها في حماية
تاريخها ورمز عزتها، لم يقف الشعب الفلسطيني مكتوف الأيدي، وإنما انطلق، منذ اليوم
الأول في الدفاع عن وطنه وعاصمته الروحية، فسارع الغيارى من المقدسيين إلى مواجهة
الاحتلال ومخططاته وبرامجه، بالتشبث بالتراث وبالمؤسسات القديمة، وبناء الجديد
مستفيدين من المساحات التي أمكنهم النفاذ منها لتحقيق أهدافهم.
وتوجت
جهودهم تلك باعتماد القدس عاصمة للثقافة العربية في العام 2009، ثم اختيارها
العاصمة الدائمة للثقافة العربية بدءا من العام 2010، ومنذ ذلك الحين تشكلت اللجنة الوطنية للقدس
عاصمة دائمة للثقافة العربية، بقرار رئاسي، ثم شرعت بإطلاق الفعاليات المختلفة ذات
الصلة، كالجوائز، والمؤتمرات والمعارض والترويج الإعلامي والإخباري... الخ.
وفي آذار من هذا العام التحمت
وزارة الثقافة في إحيائها لـ "يوم الثقافة الوطني الفلسطيني" مع جامعة
بيت لحم في فعالية بعنوان "القدس عاصمة الثقافة العربية في عيون الشباب
الأدبية والإعلامية والفنية"، ومن خلال متابعتي الحثيثة لهذه الفعالية كضيف رئيسي،
وجدت فيها من الإبداع ما يجب الإشارة إليه؛ فقد خرج الطلبة عن المألوف في تعاملهم
مع الموضوع، من خلال الخواطر والأشعار والأفلام الوثائقية المعروضة، التي توجت
بعرض فيلم وثائقي من إنجاز إحدى الطالبات يقدم القدس، بتفاصيلها الدينية
والتاريخية.
وكان هذا مكملًا للكلمات والخطب
التي سمعناها من مسؤولي الجامعة وأساتذتها، وعلى رأسهم د. آيرين هزو/ نائب رئيس
الجامعة. أما النتيجة، فهي أن هذه الفعالية الثقافية-الوطنية-التعليمية-التعلمية
كانت مشبعة بالفكر الوطني الصرف المتفهم لمدى أهمية القدس في حياتنا، وأن الصراع
القائم على أرضها هو صراع هوّياتي، وصراع بقاء؛ إذ أن الاحتلال يسعى، على قدم
وساق، إلى "محو" هويتنا و"إنشاء" هوية أخرى مكانها، مغايرة
لها تمامًا. وهذا ما جعلني أخلص إلى القول: "لا خوف على المستقبل، ولا على
الثقافة، ولا خوف على القدس طالما أن هذا الجيل يدرك أهمية المخاطر التي يمر بها
وطنه، بخاصة عاصمته الروحية، وطالما أنه يدرك كذلك المسؤولية الواقعة على كاهله،
وأنه جاهز للصمود والمواجهة مهما غلا الثمن".
ختامًا؛ نتوجه إلى صانعي القرار
على المستويين الثقافي والتربوي إلى المزيد من الالتحام بين المشهدين: الثقافي
والتربوي؛ لكي ننقل طلبتنا من حافظين للمعلومات عن ظهر قلب، إلى متفهمين لما يدور
حولهم وللدور المطلوب منهم اتجاه وطنهم، بخاصة قدسهم التي تتعرض للتهويد صباح
مساء. هذه القدس التي فيها الداء والعلّة التي يمثلها الاحتلال الجاثم على صدرها،
وفيها أيضًا الدواء والشفاء الذي يجب الوصول إليه بالذود عنها وحمايتها بالسبل
والوسائل كافة.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 12 آذار، 2015م
إرسال تعليق Blogger Facebook