0
الدكتور "حسين فخري الخالدي" في مذكراته "ومضى عهد المجاملات":
-الحلقة الأولى-
المقدمة.. التقديم.. وحال فلسطين قبل الانتداب
نُشِرَ في صحيفة العاصمة المقدسية، بتاريخ: 20 كانون ثاني، 2015م، ص: 13، بحسب الرابط التالي:
قراءة وتحليل: عزيز العصا
"الدكتور حسين فخريي الخالدي"؛ سليل عائلة تزخر بالكتاب والمفكرين والخبراء في مختلف الشئون. أما فلسطينيًا؛ فإنك أينما تلتفت تجد لهم إسهامات قيّمة، لا يمكن للباحث في الشأن الفلسطيني الاستغناء عنها؛ لما لهم من أثر في أبجديات القضية الفلسطينية منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى تاريخه.
ولد "د. حسين الخالدي" في القدس، في العام 1892، التي كانت تحت الحكم العثماني. درس في القدس، ثم أكمل دراسته الجامعية في الجامعة الأميركية في بيروت.
من أهم المحطات التاريخية في حياته:  التحق بالجيش التركي فعين طبيبًا في حلب، رئيسًا لبلدية القدس في العام 1934 وحارسًا للأماكن المقدسة. وكان عضوًا فاعلاً في العديد من اللجان والهيئات والمؤتمرات (الدولية والمحلية) ذات الصلة بالشأن الفلسطيني، منذ سقوط القدس في أيدي البريطانيين في العام 1917 حتى النكبة في العام 1948، ثم أصبح شخصية سياسية نافذة إبان المملكة الأردنية الهاشمية؛ حيث عين وزيرًا للخارجية في العام 1955 ثم رئيسًا للوزراء في العام 1957.
في جميع مراحل حياته، حظي "د. حسين الخالدي" باحترام المقدسيين بشكل خاص والفلسطينيين بشكل عام، وتقول الآنسة "لينا مجج" أن والدها "د. أمين مجج" كان يذكر "د. حسين فخري الخالدي"؛ بمهابة واحترام وإعجاب، أكثر من أي شخصية سياسية فلسطينية. وإذا ما علمنا أن د. مجج (1921-1999) طبيب وسياسي متمرد على الفساد والمفسدين، وأنه يؤمن بأن قوة الشعب الفلسطيني تنبع من وحدة الأمة العربية والإسلامية، التي هي ضرورة قصوى من ضرورات التحرر من ربق الاستعمار والتبعية، فإنه يشكف جانبًا من شخصية "د. حسين فخري الخالدي"، والآراء والأفكار التي كان يؤمن بها. أما البريطانيون والصهاينة، فلهم رأي آخر تلخّص في نفي المرحوم "د. حسين فخري الخالدي" ومطاردته وإبعاده عن وطنه فلسطين ومدينته القدس لعدة سنوات.
عاش "د.  حسين  الخالدي" السياسة بصخبها؛ فقد كان، دومًا في عين العاصفة، ولم يُسجّل عليه أنه انزوى أو تقاعس يومًا، بل كان صاحب رأيٍ واضح يتمسك به، ويعلنه للملأ حتى وإن لم يعجب "علية القوم" أو يُغضب المحتلين البريطانيين والمغتصبين اليهود. ولأنه كان الثالث عندما يرى خطأ الكبيريْن المتصارعين، فإنه كان يرصد الأحداث بعين صقر؛ لا تزيغ عن الأحداث الكبرى التي لن يرحم التاريخ أيًا من الذين عاشوها وعايشوها.
إذا ما علمنا بأن "د.  حسين  الخالدي" كان جنديًا عثمانيًا في الحرب العالمية الأولى، وحتى سقوط القدس بيد البريطانيين في العام 1917، وأنه كان في "معمعان" الصراع بين الشعب الفلسطيني والمحتلين البريطانيين حتى النكبة في العام 1948، وما شهدته هذه المرحلة من أحداث جسام على المستويات الوطنية والعربية والدولية، تتمثل بثورات الفلسطينيين في مواجهة عملية تهويد فلسطين، والحرب العالمية الثانية، وما تلاها من المزيد من البطش بالشعب الفلسطيني: أرضًا وإنسانًا ووجودًا واقتصادًا وهوية... حينئذٍ؛ لا بد أن ندرك ما أهمية كل كلمة ينطق بها هذا الرجل.
لقناعته بأن الحقائق التاريخية ليست ملكًا لصانعيها ولا لمن ينفرد بمعرفتها، بل أنها أمانة للأجيال المتعاقبة، قام "د.  حسين  الخالدي" بكتابة يومياته، التي تحولت إلى "مذكرات"، وهي الآن بين أيدينا عبارة عن "وثائق" تاريخية تنير لنا المظلم من الطريق، ونحن نبحث عن أسباب "هزائمنا" ومسبباتها، وتبلغنا عن بطولات أجدادنا وصمودهم في وجه أعتى قوىً على وجه الأرض. وهذا ما فعله رحمه الله في العام 1949؛ عندما وثّق مذكراته حتى ذلك التاريخ.
وفي العام (2014) صدرت مذكرات "د.  حسين فخري  الخالدي" عن دار الشروق للنشر والتوزيع، بطبعتها الأولى، وقد حررها د. رفيق الحسيني؛ حفيده من ابنته. فكانت بحجم ثلاثة مجلدات تشكل، في مجموعها، (1300) صفحة من القطع المتوسط، توزعت على ثمانية دفاتر، ضمت (188) عنوانًا. قمت بقراءتها على مدى يناهز الأربعين ساعة. وعندما وجدتها هكذا لم أفاجأ بأمرين اثنين، وهما:
أما الأول؛ فهو عنوان تلك المذكرات "ومضى عهد المجاملات"؛ لأنني لم أكن أتوقع من "د.  حسين  الخالدي" غير كشف الحقائق للأجيال كما هي؛ دون تزويق أو تجميل.
وأما الأمر الثاني؛ فهو حجمها، كما هو موصوف أعلاه، التي نظمها على مدى سنيّ عمره كصانعٍ للقرار ومشارك فيه، وما يعنيه ذلك من معاصرته، لأحداث جسام مرت بها فلسطين وشعبها والأمتين العربية والإسلامية وشعوبهما.
إلا أن المفاجأة, التي لم نجد لها تفسيرًا، إلا في كلمة ابنته "ليلى الخالدي الحسيني"، فهي تأجيل نشرها حتى التاريخ المذكور أعلاه، علمًا بأن آخر كلمة كتبت في تلك المذكرات كانت في العام 1949.
عند الاطلاع على تلك المذكرات، التي تتوقف عند العام 1949، تجد نفسك أمام نصوص مفعمة بالحيوية والحركة، لدرجة أنك تكاد تسمع أنين الشعب الفلسطيني، فردًا فردًا، في تلك الحقبة الزمنية الممتدة على مدى ثلاثين عامًا؛ وهي عمر الانتداب البريطاني على فلسطين، الذي انتهى بإقامة دولة لكيان اغتصب الأرض والتاريخ والتراث وشرّد أصحاب الأرض الشرعيين، وشتتهم في بقاع الأرض.
لقد كان "د.  حسين  الخالدي" موضوعيًا في سرده للأحداث، حتى أن هناك مساحات واسعة من تلك النصوص اتخذت الطابع البحثي البحت، التي ظهر فيها "د.  حسين  الخالدي" باحثًا محايدًا يجهد نفسه في تقصي الحقائق وتوثيق مراجعها وبياناتها وبيّناتها، متجنبًا الغوص في الأرقام والتواريخ التفصيلية. علمًا بأن غياب التواريخ والإحصائيات الدقيقة، ذات الصلة بالعديد من الأحداث كان له أثر سلبي على القارئ الذي يرغب في متابعة التسلسل الزمني للأحداث.
وقد اتبع أسلوب "الاستعراض الخاطف للحالة وللحوادث التي جرت في فلسطين في أواخر العهد العثماني وزمن الاحتلال البريطاني، إلى ما بعد اندلاع نار الحرب العالمية الثانية"، وصولًا إلى النكبة وما بعدها من تيه الشعب الفلسطيني وتشرده. أما مصادره في هذا كله فهي: معلوماته الشخصية وما امتلك من وثائق ومستندات. ويؤكد على أنه لن يذيع سرًا يعتقد أن المصلحة تقضي بكتمانه، ولذلك اكتفى ببعض الحوادث والشواهد ذات المظهر البارز أو المغزى الواضح.
قبل الولوج في مجلدات "د.  حسين  الخالدي" ودفاتره وعناوينه داخل كل دفتر منها على حدة، نجد أن محررها (د. رفيق الحسيني)، يبلغنا بأنه تعامل مع نصوص تلك المذكرات وأعاد صياغتها وتعديلها وتصويبها (نحويًا وقواعديًا) دون أن يمس الجوهر، ودون أن يبقي على أي مفردة أو جملة قد تسيء لأي شخص أو تجرحه، في ظل غياب شهود النفي و/أو الإثبات. ثم تستقبلنا ابنته "ليلى" في كلمة العائلة، لتبلغنا أن والدها، في مذكراته هذه "كتب التاريخ كما رآه، وشَهِدَ التاريخ كما لَمَسَهُ، واستخلص من التاريخ ما شعر به من عِبَر".
أما د. عاصم الخالدي؛ نجل أعز أصدقاء "د.  حسين  الخالدي" فقد أدلى بشهادة، مطوّلة، أنبأنا فيها: "لم يولد صاحب هذه المذكرات وفي فمه ملعقة من ذهب؛ وإنما قاسى مرارة الغربة والعسكرية والتشرد والنفي, واكتوى بنيران الانتداب والغطرسة الصهيونية؛ إلى جانب شعبه الذي رفض الظلم والضيم وقاوم مقاومة الأبطال الصناديد. وعندما انقسم السياسيون الفلسطينيون بين مجلسي ومعارض كان هو الثالث، الذي يسعى إلى توحيد  الصف، وترك النزاعات التي تثيرها عصبيات الانتماء القبلي. وسمعته عندما قال، وهو يتألم لواقع القدس وفلسطين:"يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً". وقد كتب المرحوم "د.  حسين  الخالدي" مذكراته هذه "ليعرف ابناء فلسطين كيف طرد آباؤهم من أرضهم ليصبحوا مشردين في بقاع العالم بلا هوية".
ثم تمهد د. سلمى الجيوسي لهذه المذكرات، بأن تشير إلى أن "المذكرات الشخصية هي صورة مباشرة للتجربة، لا نسخة عنها وأنها تحمل دفء المعاناة وحميميتها وفي أكثر الأحيان صدقها. كما تشير "الجيوسي" إلى إعلان صاحب هذه المذكرات عزوفه عن المجاملات، معتبرة أن في ذلك صراحة ملفتة، مبدية ندمًا على عدم نشرها في حينها، لعلها كانت تعطي درسًا مهمًا لأكثر من جيل عربي نمت تقاليده بالتدريج ودخل في مناخ مختلف عن مناخ النكبة ومذاقها المرير (ج1، ص: 32). كما أن المرحوم "د. حازم نسيبة" يقدم لهذه المذكرات مشيرًا إلى أن "د.  حسين  الخالدي" كان عالماً محيطاً واسع الثقافة والآفاق وأنه كان أحد اثنين من أعضاء الهيئة العربية العليا المتواجدين في القدس فترة ما قبل النكبة مباشرة. ثم ينطلق د. نسيبة"، بشئ من الإسهاب، في الإجابة على سؤال "كيف ضاعت فلسطين؟"، لينتهي به الأمر موجهاً بضرورة قراءة هذه المذكرات بتأنٍ, لعلنا نأخذ منه العبرة لمستقبل الأيام.
وهذا ما فعلتُه؛ عندما قمتُ بقراءة تلك المذكرات بتأنٍ، ودون كلل أو ملل فوجدت أن فيها الكثير الكثير مما لم نسمعه من قبل، ومما لم تجمعه الكتب والمصادر والمراجع، في آنٍ معًا، كما فعل "د.  حسين  الخالدي" في مذكراته هذه.
نظرًا لاتساع تلك البيانات والبيّنات التي احتوتها تلك المذكرات، والتي غطت حقبة زمنية حساسة وهامّة من تاريخنا المعاصر، فإنني أكتفي بالإشارة إلى أهم تلك المحاور، من وجهة نظري المتواضعة، تاركًا لمن يقرأها أن يستقي ما يهمه، وما يراه أكثر أهمية من غيره:
أولاً: حال فلسطين قبل الانتداب:
فقد رزحت فلسطين تحت الحكم العثماني أربعمائة سنة أو يزيد. ويرى "د.  حسين  الخالدي" أن أواخر هذه الحقبة شهدت تأسيس الدولة اليهودية, نظرياً، عندما أعلن عنها تيودور هيرتزل في العام 1896, علماً بأن بعض يهود فلسطين كانوا يسكنون في بيوت تعود للأوقاف الإسلامية؛ ويعيش قسم منهم على الاستجداء  أو الإحسان.
ويؤكد "د.  حسين  الخالدي" أنه قد دب الانحلال في جسم الدولة العثمانية ونخره سوس الوساطة والمحسوبية والرشوة، وتساقطت أجزاؤه وأنهكتها الحروب والثورات الداخلية. فبلغ سوء الإدارة مبلغه، حتى أن غباوة الموظفين العثمانيين وجهلهم كان مضرب الأمثال, فقد عرفوا النفط, في كتبهم المدرسية بأنه سائل أسود مشتعل، كريه الرائحة، يوجد في كل العالم إلا في المملكة العثمانية!
وقد أدى هذا الأمر إلى انتشار الوجود اليهودي والأوروبي في فلسطين وفي الاراضي الأميرية بالذات. فكانت أول مؤسسة يهودية في فلسطين بإسم مدرسة نيتز الزراعية اليهودية، على الأبواب الشرقية لمدينة يافا في العام 1870, ثم أقام اليهود الكنيس الكبير المشرف على صحن المسجد الاقصى, كما بنوا أحياء لهم حول المدينة المقدسة، والتي تعرف "بالكوبانيات". وأن الحركة الصهيونية كانت تدعي أنه ليس لها أي صفة إستعمارية أو مغزى سياسي, وهي ترمي إلى الخير والبركة، ثم إلى إنعاش البلاد المقدسة ومشاركة العرب في تعميرها ورفع مستواها.
ويشير "د.  حسين  الخالدي" إلى أن الفلسطينيين هم أول من شعر بالخطر الصهيوني وحذروا منه. أما العرب فقد كانوا لا يقيمون وزناً لتلك المخاطر، وكان منهم من يتمنى لو حل اليهود بينهم للاستفادة منهم. وعندما نبشت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) دفع الشعب الفلسطيني ثمن أهوالها، مثل:
-          تم إخلاء بعض مدن فلسطين وقراها كغزة التي أفرغت، تماماً، من سكانها ودُكَّت بيوتها, وهاجر سكانها دون أن تتخذ الحكومة التركية أية إجراءات لمعونة اللاجئين؛ فبقوا في حالة من الضيق والضنك.
-          من شدة الفساد في الحكم، فإن اليهود فقد تمكنوا من الالتحاق بالخدمة العسكرية، غير المسلحة، ولعبوا دوراً خطيراً في التجسس لحساب الحلفاء, حتى أن مستعمراتهم في فلسطين كانت أوكاراً نمت فيها الجاسوسية وترعرعت.
-          كما أن الفلسطينيين دفعوا ثمناً من ثرواتهم من أشجار الزيتون التي قطع الأتراك 35% - 40% من مجموعها؛ لاستعمالها وقوداً للقطارات.
-         والنتيجة المأساوية، أن الجيوش العثمانية لم تترك من السلاح والعتاد سوى بعض البنادق القديمة والرشاشات التي استعملها العرب، في كثير من الأحيان، في محاربة بعضهم البعض.

.../ يتبع الحلقات الثانية والثالثة والرابعة

إرسال تعليق Blogger

 
Top