0




عيسى القواسمي روائي فلسطيني–مقدسي؛ ملتصق بالقدس وقضاياها وشئونها وشجونها. وها هو في روايته السادسة، بعنوان "عازفة الناي"، الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع بعمان في العام 2014، يتجول بنا في (72) محطة وزعها على (384) صفحة من القطع المتوسط..
يقدم لقضيته الروائية بثلاث محطات، مشبعة برمزية لا تخلو من التعقيد، ومن صعوبة العثور على الرابط فيما يبنها، بدءًا بالصخرة اللعوب التي تعاكس البحر, وذلك الإنسان البحري وانتهاءً بتعريفه للنهايات التي يعني بها فناء الاشياء, مؤكداً أن "البدايات تحبطنا وتتركنا ننساق بعيداً عمّا كنا قد خططناه مسبقاً", لينتهي به الأمر أن يختار البدء بأحداث اكتملت في منتصف المسافة, حيث الثورات كانت تبيع أوطانها لكي تكتشف أبعد من وجوه جلاّديها يزيف من يخدع حريته المتخيّلة.
أما القضية الروائية، فتقوم على أن روح المكان هي المدافع عنه، عندما يتخلى عنه الجميع، ويهاجمه الأعداء في محاولة لمسخ هويته وتغييرها لصالح المعتدي وروايته المزعومة، رغم ان المكان بذاته ينطق ويبقى مصرا على الالتصاق بأهله.
وأما من حيث البنية والسرد, فنجد أن النص قد انحصر في الشخصيات الشريرة، وتلك الضعيفة أمام اللذات والشهوات، والشخصيات المهتمة بالسحر والشعوذة. فقد غيب الكاتب صوت الخير وأضعف وجوده، ولم يبق من الخير في القدس سوى الطيف؛ وهو بقايا الروح غير المستقرة, وذلك الزمن الغابر الذي بناه المؤمنون من الأجداد, الذي بقي ملتصقاً بالبيت الذي سيطر عليه اليهودي, والذي يحرق اليهودي ويلاحق كل من يخون القدس وتاريخها. والترقيم والإملاء، فهو بحاجة إلى مراجعة؛ من أجل التصويب.
وأما من حيث المعمار الجمالي فقد جاء موفقا, إلى حد ما, إلا أنه غرق في وصف الأماكن في القدس وأريحا والمانيا, وتكرر كثيراً تلك الرمزيات التي تشير إلى معنى واحد ووحيد وهو الصراع بين الماضي التليد والحاضر المؤلم المشبع بالوجع. من جانب آخر؛ نجد أن النص بحاجة إلى إعادة تدقيق, من حيث الترقيم (بخاصة علامات التوقف) والإملاء, وتوزيع الفقرات. وأما السرد الروائي فقد اقترب كثيراً من الإسهاب عندما بدأت سلسلة متابعة من قصة بهاء وهيلينا على مدى النصف الثاني من الرواية، ثم دخل الغجر في السرد لنكتمل قصة أخرى متتابعة؛ لا يتغير فيها الأبطال.
أما العمق المعرفي للنص؛ فقد وجدته يركز على المحاور والمرتكزات التالية التي شكلت الهيكل الفكري والفلسفي للرواية:
أولاً: المفاهيم والثوابت الوطنية:
وإن قلّت مساحتها إلى حد كبير في النص إلا أنها موجودة بين الثنايا. فهو يشير إلى عروبة القدس وكنعانيها بقوله: وما نحن إلا امتداد لضوء أشتعل قبل مئات السنين ليبقى (ص10). كما يذكر الأب الشهيد والجد الشهيد اللذين قضيا وهما يدافعان عن مسكنهما وعن تاريخ أجدادهما. كما انه أشار إلى العلاقة الإسلامية المسيحية, إلا انه استخدم مصطلح "النصراني", دون مبرر, فكان بإمكانه استخدام أسماء عربية تشير إلى ديانة المقدسي دون الإغراق في أوصاف منفّرة.
ثانياً: المفاهيم الفلسفية والرمزيات:
فقد اشبع النص، بها بدءًا من السطر الأول، عندما يرتبط بالبحر، في بداية الرواية ونهايتها،  ويفضله على مدن اليابسة البائسة التي هي غير قادة على تحمل ميزة جسده على التنقل،  ويرى أن النهاية بداية حياة ما في زمن آخر الرمال يبتلعها (ص7). كما يكرس الارتباط بين الإنسان والآلة، حتى أنه يقدمها على الإنسان عندما يرى أن الناي لا يمكنها أن تكذب أو تخون مشاعر عازفها, وإنها تعزف ليسمعها الكون. وفي ذلك انبهار بالحضارة لدرجة الانقياد لها. و يعرف الذاكرة بأنها لا تشبهنا، حتماً، لأنها لا تخون ما فيها (ص88).
ثالثاً: التعريف بالأماكن والطرقات:
فقد ذكر تفاصيل عديدة من القدس؛ بخاصة البلدة القديمة, عندما ذكر ابوابها (السلسة, العمود, الحديد... الخ)، وطرقها كنائسها ومساجد (ص28)،  ثم يصف الكنائس في تجاوزها مع المساجد في ذلك العتق الأبدي داخل الاسوار, وفيها تكتشف أن تلك الأمكنة ما هي إلا صورة عن العالم أجمع. وكذلك دير قرنفل والطريق الموصلة إليه. ثم ينتقل بنا إلى المانيا؛ ليعرفنا على ابرز مقاطعاتها، وقد بدا في هذا كله وكأنه يعرض أمامنا صورة متحركة؛ توفر لنا المعرفة التي تنقصنا عن تلك الأماكن.
رابعاً: الصراع مع المستوطنين:
لقد بدأ قصة ضياع المنزل، بوصف البطل لـ "غرفته" المتآكلة، وبسقفها الذي بدت فيه الرطوبة وكأنها اشكال الرسومات مشوهة. وفي ذلك تشويه لصورة المسكن الذي يرقب تسليمه للمستوطنين. كما أن قصة الاستيلاء على البيت بدت هادئة بدون صخب ولا اعتراضات, حتى بدت وكأنها عملية بيع وشراء عادية، بين مواطنين من نفس الدولة، لبيت عادي, علماً بأن القادم هو مستوطن؛ اشترى بالتزوير، وأن البيت بيت تاريخي للصوفية. ولم يبق يحرسه سوى الطيف الذي يقترب من كوة في الحائط خلف سرير جدّه (ص89). وفي ذلك رمزية إلى أن هذا التاريخ يحرس نفسه بنفسه، حينما يتخلى عنه أصحابه.
وقد عمقت هيلينا الألمانية، في بطل الرواية (المقدسي)، فكرة استبدال بيته الذي استولى المستوطنين بأي بيت آخر (ص126). ويؤكد "القواسمي" في روايته: في كل زقاق وعند أي زاوية، أو ركن في البلدة القديمة داخل السور، هناك بيت أو بناية باتت ملكًا للمستوطنين (ص123). علماً بأنه يقول: هو بيتي أنا، وبيت والدي وجدي، وكل أولئك الطلبة الصوفيين الذين تركوا أنفاسهم في زواياها (ص151). حتى ربحي؛ الذي باع البيت وتهوّد، بدا في النهاية وقد انتحر (تائباً!!)، وكأنه أعاد الحق إلى أهله وأبقى لنا وردة؛ التي لا تحمل من العروبة والإسلام إلا الإسم، أصبحت تحب القدس أكثر من بئر السبع؛ مسقط رأسها.

خامساً: مفاهيم وسلوكيات غير حميدة:
فقد تكرر في هذه الرواية مشاهد مشبعة بسلوكيات غير سوية ولا يجوز تعميقها في القرّاء من أبنائنا, مثل:
1.      إسكات الجوع بسيجارة، حيث أن البطل (بهاء) "رد على الجوع بأن ينفث دخان السيجارة بعصبية وتوتر شديدين. ويبرر التسول، ويعرفه بأنه مخاطبة الأيدي, ومنح اليد للريح (ص169).
2.      أما بخصوص الخمر وأنواعه وأصنافه، وطرق احتسائه فقد تكررت في أكثر من موضع. إذ أن نوح "استعاد هدوءه بعد تلك الجرعات من الخمر" (ص56)، كما أنه يتنبأ بالموت (ص58)، وأنه يغطي تكلفة دفن والدة "بهاء الدين". والعرق ينقي ذهن (السكّير) مما علق به من شوائب اليوم, والعرق مدخله إلى التعمق أكثر في جوهر أفكاره (ص158)، والماء تفسد نكهة العرق (165)، ثم "سكب لنفسه كأساً أخرى وحلق في نشوة روحانية" (ص169)!!
3.      تكررت المشاهد الجنسية ومعاقرة الخمر، التي شكلت مشاهد عدة منذ بداية الرواية حتى نهايتها؛ كما أنه انتهى وهو يحتسي الخمر هناك في المانيا؛ متسامحًا مع عمه عبر حبّه لابنته، ناسيًا بيته الذي عليه الدفاع عنه حتى استرجاعه!
سادسًا: نهاية الرواية:
من المؤلم أن الطيف، وفق تعريفه السابق، أصبح أسيراً للراهب الألماني ولصديقته هيلينا, كما أن الغجري يخرج ذلك الطيف من جسد "بهاء الدين"، ويلقي به في أعماق البحر, ليبقى "بهاء الدين" مغشياً عليه سكراناً-خمراناً وبجانبه هيلينا. أما المستوطن فقد نَعِم بالبيت، بعد أن حاول الاستعانة بـ "بهاء الدين" وبتعاون الالمانيان (الراهب وعشيقته هيلينا) اللذين جعلاه بقبل فكرة دخول البيت بوجود المستوطن وأسرته؛ والتعاطف مع ابنة المستوطن التي تعاني من الخوف من فتاة الطيف التي لم يكن "بهاد الدين" يخشاها.
الخلاصة:
هذه هي رواية عيسى القواسمي بما فيها من حقائق مؤلمة, تكشف "دور" لاعبي القمار والسكيرين في تهويد القدس، وتضييع أمجاد  الآباء والأجداد. كما تكشف عمق المأساة الكامنة في نفوس شريحة من أبنائنا. فظهر لنا هذا الوجه العابس للرواية.
لن أعاتب الكاتب على تغييبه للوجه الآخر للقدس والمقدسيين الذي صمدوا وأبدعوا في المواجهة، ولكنني اسأله: ألم يكونوا موجودين في تصوراتك وتخيلاتك أثناء الكتابة. وحتى وإن كانت القصة حقيقية, ألم يكونوا موجودين على الأرض ليكون لهم دور واضح في مواجهة شريحة السكارى والزناة وبائعي العقارات والمتهودين؟!
نشر في صحيفة القدس، بتاريخ: 13 شباط، 2015، ص: 18
فلسطين، بيت لحم، العبيدية




إرسال تعليق Blogger

 
Top