السرقةُ:
بين الحد الإلهي.. والتعزير المجتمعي
نُشِرَ
في مجلة الإسراء. تصدر عن دار الإفتاء الفلسطينية. العدد 106 (كانون أول وكانون
ثاني-2012-2013). ص ص: 83-89
يتميز الإنسان عن باقي المخلوقات بالعقل. وعليه؛
فإنه على الإنسان عدم استخدام هذا العقل في عصيان الخالق؛ بإيذاء الآخرين، والاعتداء
على ممتلكاتهم، واستباحة خصوصياتهم، واستحلال ما حرم الله... الخ، لأنه عندئذٍ
تنتفي عن الإنسان صفة العقلانية، ويستقر به الأمر في خانة المسيئين الذين يحملون وزر
إساءاتهم، ويدفعون ثمن ظلمهم الذي يوقعونه على الآخرين، مصداقاً لقوله تعالى:
"مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء
فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ" (فصلت: 46).
ويختلف الأذى الذي تتركه تلك الإساءات بحسب مستواها، والجهة التي استهدفتها،
وتأثير المسئ ودوره في المجتمع.
ومن بين تلك الإساءات: الجناية أو الجريمة؛ وهي
ظاهرة اجتماعية ملازمة للمجتمع الإنساني منذ الأزل وإلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها. والجناية كل فعل عدوان على نفسٍ أو مالٍ، لكنها في العرف مخصوصة بما يحصل
في التعدي على الأبدان، وسمّوا الجنايات على الأموال غصباً ونهباً وسرقةً وخيانةً
وإتلافاً([1]).
أي أن السرقة
جريمة/ جناية، وهي من الجرائم التي تضرب في عمق التاريخ إلى يومنا هذا. فقد جاء في
سورة يوسف، قوله تعالى: "قَالُواْ إِن يَسْرِقْ
فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ" (يوسف: 77). كما أن ترك السرقة
و/أو عدم إتيانها كانت من علامات الإيمان الحقيقي وواحد من المؤشرات على انتقال
الفرد من المجتمع الجاهلي إلى الالتزام بالإسلام دين وعقيدة ونظام حياة، مصداقاً
لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ
الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا
يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ
بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ (...)"
(الممتحنة: 12). أي أن السرقة تأتي بعد الشرك بالله وقبل أي جريمة أخرى.
في عصرنا؛ أصبحت السرقة ظاهرة تلفت النظر، وتلهب
المشاعر، وتشعل الغضب والغيظ في نفس كل حرٍ كريمٍ، ليس لأنها الجريمة الأكبر أثراً
في المجتمع فحسب؛ بل لما ينبثق عنها، وما يرافقها، وما يسبق تنفيذها، من جرائم
أخرى ذات صلة، كالاعتداء على خصوصيات الفرد والأسرة والمجتمع، واستباحة حرمات
البيوت وغير ذلك. وتتفشى بين شريحة الشباب؛ نتيجة سوء التربية، والجهل، والفراغ،
والفقر، والفاقة... الخ. لذلك؛ ارتأينا استعراض هذه الظاهرة بشئ من التحليل لكي
نقارن بين نظرة الإسلام لها، وبين تعامل المجتمع المحلي الفلسطيني معها، كمجتمع
مسلم يدين بالاسلام عقيدة وممارسة.
أولاً: جريمة السرقة في الإسلام:
جاء نظام العقوبات في الإسلام باعتباره جوهر الشريعة
المتمثلة في مقاصدها لإصلاح المجتمع، وكبح جماح الشر، ومعاقبة الشريرين الذي
يستبيحون حرمات الناس وأموالهم وأعراضهم... الخ. وتُقام الحدود في الإسلام في
حالات: الردّة، الزنا، السرقة، القذف، شرب الخمر والحرابة([2]).
يعتبر الحد والقِصاص عقوبة على جناية، إلا أن الحد وجب حقاً لله تعالى غالباً،
والقِصاص وجب حقاً للمجني عليه أو أولياؤه([3]).
وقد جاء الحكم الإلهي بحق السرقة واضحاً جلياً بقوله
تعالى: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ
أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ" (المائدة: 38)[4].
أما في السنة النبوية فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أهلك
الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف
أقاموا عليه الحد، وإيم الله: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"([5]). أي أنه أمر
إلهي؛ لا مجال لعصيانه أو مخالفته. ولكن يبقى السؤال
الاستراتيجي الهام: هل يتم تطبيق هذه العقوبة في كل الظروف، والعصور، والأزمان؟
لا يلاحق الإسلام الناس ليقطع أيديهم ،
ولكنه يعالج مشكلة الفقر حتى لا يبقى فقير واحد، لذلك جعل كفارة كثير من الذنوب
إطعام الفقراء([6]). وتفيد المراجع أن هناك ضوابط، أو شروط، وضعتها الشريعة
لإقامة حد القطع، وهي أن يكون المسروق شيئاً ذا قيمة أي أن له اعتباراً اقتصاديٍّا
فى حياة الناس، وأن يكون محفوظاً فى حرز([7]).
يتم هذا في ظل
نظامٍ إسلامي شاملٍ متكاملٍ، يحفظ للفرد حياة حرة كريمة، ويضمن له السبل الكفيلة
بفتح آفاق الكسب الحلال، التي تكفلها الدولة والمجتمع والأسرة. ولم تشهد القرون
الأولى للدولة الاسلامية تطبيق العقوبات الجسدية إلا فيما ندر بالرغم من ترامي
الدولة واتساع رقعتها وتركيب مجتمعاتها([8]). وقد ورد في
الأثر أنه لا عقوبة بالقطع في الحالات التالية([9]):
§
فيما يتسارع
إليه الفساد و/أو مهيأ للأكل؛ كاللبن، واللحم، والفواكه الرطبة،
والخبز.
§ في حضرة العدو؛ فبعض أهل العلم لا يرون أن يقام
الحد في الغزو بحضرة العدو، مخافة أن يلحق ما يُقام عليه الحد بالعدو، فإذا خرج
الإمام من أرض الحرب ورجع إلى ديار الإسلام أقام الحد على من أصابه.
§
يسقط القطع بالعفو والشفاعة، إذا لم يصل الأمر
إلى الإمام، وإذا لم يكن الرجل معرفاً بالفساد.
وأما الشبهات التي توقف تطبيق الحد، ليحال
الأمر إلى الحاكم؛ ليعزر من شاء بما يكف شر الجريمة ويردع السارق عن فعلته، فمنها([10]):
v الأصول
كالأب والأم، والفروع كالإبن والبنت؛ لشبهة الإنفاق والتبسيط.
v أحد
الزوجين بسرقته من مال الآخر؛ لشبهة النفقة والتبسيط.
v سرقة
العبد من مال سيده، والسيد من مال مالكه؛ لشبهة النفقة والتبسيط.
v السرقة
من بيت المال؛ لشبهة حقه في بيت المال.
v الفقير
إذا سرق من غلَّة وقفٍ على الفقراء؛ لشبهة استحقاقه منها.
v السرقة
من مال له فيه شراكة؛ لأن له نصيباً فيه.
كما أن هناك ظروفاً قد تمر بها الأمة،
أو يمر بها المجتمع، يتم فيها وقف تطبيق الحد على السارق، كما فعل عمر بن الخطاب،
رضي الله عنه، في عام الرمادة؛ حين عمَّت المجاعة. ويأتي ذلك، كقياس، على قاعدة
أنه إذا جاع المسلم فلم يجد ما يشبع بطنه فعلى المجتمع سد حاجته، وليس عليه قطع إن
منعوه فأخذ منهم كفايته([11]).
ثانياً: جريمة السرقة في العرف المجتمعي:
لم يكن العرف المجتمعي ليبتعد كثيراً عن رؤية الشرع
لجريمة السرقة؛ لأن المجتمع توارث استنكار السرقة ورفضها، من جيلٍ إلى جيلٍ؛ منذ
وجوده على هذا الكوكب. لذلك؛ قامت المجتمعات البشرية، منذ أقدم العصور، بسن
تشريعات رادعة للحيلولة دون ارتكاب السرقة، وخضعت التشريعات إلى اجتهادات من قبل
أصحاب الشأن، فمنهم من ذهب إلى إنزال أقصى العقوبات لتصل إلى عقوبة الإعدام للقضاء
عليها، ومنهم من وضع تشريعات اقل منها صرامة([12]).
واعتبرت في تشريع حمورابي جريمة مدنية، وكان يقضي بتعويض المجني عليه عن قيمة الشئ
المسروق على عاتق محافظ المدينة في حالة عدم توصله إلى الجناة([13]).
وعندما جاء الإسلام أقر عقوبة
الحد على السارق في حال توفر شروط تتلخص في أجواء اقتصادية واجتماعية وأسرية تصون
كرامة الإنسان، وتبعده عن الانزلاق في مهاوي هذه الجريمة. وبغير ذلك؛ يتم دراسة
الشبهات التي تدرأ تطبيق الحد وتخفف من حدته، لينتهي الأمر بالتعزير الذي قال فيه
الشيخ عبد القادر عودة رحمه الله([14]):
"التعزير للتأديب ، وأنه يجوز من التعزير ما أمنت عاقبته غالباً،
فينبغي أن لا تكون عقوبة التعزير مهلكة، ومن ثم فلا يجوز في التعزير قتل ولا قطع".
وهكذا؛ في ظل غياب حكم الشرع([15])،
وفي ظل غياب العدالة الاجتماعية التي تعنى باحتياجات الفرد والأسرة، من صحة وتعليم
وكسوة وطعام وأمن آمان... الخ، فإن الشبهات هي الأمر السائد الذي يحيط بجرائم
السرقة، وبالتالي فإن حد السرقة يتم درؤه لينتهي بالسجن والحكم على السارق من قبل
المحكمة التي تطبق القوانين الوضعية، والتعزير المجتمعي المتمثل فيما يلي:
·
يقوم عقلاء
القوم، من أهل السارق، بإرسال وسطاء للمجني عليه، لعقد اتفاقية هدنة بين الطرفين
تسمى "عطوة"، يتبعها ما يسمى "الطيبة" والتي يتم خلالها تنفيذ
طلبات المجني عليه؛ تجدد بقدر التصرفات الشريرة التي قام بها السارق أثناء ممارسته
لجرم السرقة، وما انبثق عنها من أضرار مادية ومعنوية. ومن ثم الإعلان عن الصلح بين
الطرفين وإبداء التسامح.
·
يتخلل
"الطيبة" تبادل الخطابات والمواعظ التربوية-التعليمية، التي تتم وسط جوٍ
رهيبٍ يسوده الصمت وحسن الإصغاء من قبل الحضور، وتتضمن اعتذاراً، بِأَرَقِّ
العبارات وأجملها وأكثرها عمقاً وتأثيراً، عما قام به السارق من تصرفات غير منضبة؛
مشبعة باستباحة حرمة الآخرين وخصوصياتهم وترويعهم؛ منذ اللحظة الأولى للتفكير في
جريمته إلى أن انتهى به الأمر باختلاس "الحرز" من مكانه.
·
يترك ذلك أثراً
بالغاً على الحضور، بخاصة الشباب والمراهقين؛ إذ يستخلصون الدروس والعبر من خلال
الموقف المؤلم الذي يكون عليه أهل السارق، ومن خلال العبارات التوجيهية التي يصدح
بها المتحدثون.
·
في كل تلك
المراحل؛ هناك نخبة من عقلاء المجتمع الذين يملكون من الحكمة والحنكة والدراية
وعمق التجربة، ما يمكنهم من رأب الصدع، و"لملمة" الأمور لينتهي الأمر
بإعادة الحقوق إلى أصحابها، وإعادة السارق إلى حياته الطبيعية بعد أن يكون قد تعلم
درساً قاسياً كان كافياً لأن يعلم من حوله كذلك. لا سيما وأن المحكمة المدنية
تعتبر هذا الصلح، المعلن، شرطاً من شروط التخفيف في الحكم الصادر على السارق و/أو
الإفراج عنه.
خلاصة
القول:
إن ما ذُكرَ أعلاه من وصف للسرقة
وانعكاساتها على المجتمع والدولة، بل والأمة بكاملها، يجعلنا نتوقف ملياً أمام هذه
الظاهرة التي تُخلخل أركان الاستقرار والأمن والأمان الذي يحتاجه أي مجتمع في هذا
الكون. ولنا أن نتخيل التأثير الهدام لظاهرة السرقة إذا ما علمنا بأنه لا يوجد
مجال، في عالمنا المعاصر، إلا وفيه إمكانية للسرقة، فهناك إمكانيات لسرقة البضائع
والمواد والأداوت، وهناك ظاهرة سرقة الأفكار، والأبحاث، والإبداعات، والاختراعات،
والمقالات...الخ، من مستجدات الحياة البشرية التي أفرزتها حضارتنا المعاصرة.
تعتبر السرقة "الأب
الروحي"، والمحرك، للعديد من الجرائم الأخرى؛ فمن يداهم منازل الناس، تكون
سرقة "الحرز" هي المرحلة الأخيرة في مسلسل الجرائم التي يقوم بها قبل أن
يستكمل خيوط جريمته تلك؛ إذ يستبيح حرماتهم وأسرارهم وخصوصياتهم وأموالهم وحتى
حياتهم. من هنا؛ نتوجه إلى الآباء، والمعلمين، وأئمة المساجد، والكتاب، والمفكرين،
كل من جانبه، بضرورة النصح والإرشاد لمن هو تحت مسؤوليتهم، من أفراد وجماعات،
لخطورة هذه الظاهرة والتنبيه للضرر الفادح الذي تُلحقه هذه الجريمة بالسارق نفسه
وبأسرته وأقربائه وذويه ومحيطه الاجتماعي؛ القريب والبعيد.
وليعلم الجناة والمجرمون من
اللصوص أن تطبيق الحد الإلهي، أو التعزير المجتمعي، أو حكم المحاكم المدنية، فرادى
ومجتمعة لا تزال أقل بكثير من حجم الضرر الذي يتركه السارق-الجاني-المجرم على نفسه
وأسرته ومجتمعه وبلده وأمته والإنسانية جمعاء. فليتوقفوا عن أفعالهم تلك؛ وليعودوا
إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله، سبحانه، قابل التوبة من عباده، القائل في محكم كتابه
العزيز: "وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ
السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ"[16]
صدق الله العظيم.
فلسطين، بيت
لحم، العبيدية، 18/أيلول/2012م
[1] العيساوي،
نجم (2002). الجناية على الأطراف في الفقه الاسلامي. رسالة ماجستير. دار
البحوث للدراسات الاسلامية وإحياء التراث. دبي، الإمارات العربية المتحدة. ط1. ص
26.
[2] صدقي، عبد الرحيم
(1987). الجريمة والعقوبة في الشريعة الإسلامية: دراسة تحليلية للقِصاص والحدود
والتعزير. مكتبة النهضة الناصرية، القاهرة، مصر. ط1. ص15.
[3] الموسوعة
الفقهية (1995). قَذْف-قَضَاء. الجزء الثالث والثلاثون. وزارة الأوقاف والشئون
الإسلامية. مطابع دار الصفوة للطباعة والنشر والتوزيع ج. م. ع. ط1. ص ص: 259
[4] يفسر الجلالين هذه
الآية: (فاقطعوا أيديَهما) أي يمين كل منهما من الكوع وبينت السنة أن الذي يقطع
فيه ربع دينار فصاعدا وأنه إذا عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم ثم اليد اليسرى
ثم الرجل اليمنى وبعد ذلك يعزر.
[8] المرسي،
كمال الدين (1999). الحدود الشرعية في الدين الإسلامي. دار المعرفة
الجامعية. المنصورة، مصر. ص15- -ص21.
[9] العيساوي،
نجم (2002). الجناية على الأطراف في الفقه الاسلامي. رسالة ماجستير. دار
البحوث للدراسات الاسلامية وإحياء التراث. دبي، الإمارات العربية المتحدة. ط1.
ص16-ص21.
[10] التويجري،
محمد بن إبراهيم (2009). موسوعة الفقه الإسلامي، الجزء الخامس. ط1. كتاب الحدود،
ص157.
[13] صدقي، عبد الرحيم
(1987). الجريمة والعقوبة في الشريعة الإسلامية: دراسة تحليلية للقِصاص والحدود
والتعزير. مكتبة النهضة الناصرية، القاهرة، مصر. ط1. ص15.
[15]
لو قمنا باستعراض دساتير الدول العربية والإسلامية لوجدنا أنها تبدأ بعبارة "دين
الدولة الإسلام" وعبارة "الشريعة الاسلامية هي مصدر التشريع للدولة.
إرسال تعليق Blogger Facebook