0

نُشِرَ في مجلة الإسراء. تصدر عن دار الإفتاء الفلسطينية. العدد 112 (كانون أول-2013) ص ص: 85-90



المسجد، إن أحسنا إدارته ورعايته؛ يكون منارة للعلم والمعرفة، ومدرسة لتهذيب رواده وإعدادهم؛ سلوكياً، وأخلاقياً، وتربوياً... الخ؛ أي أنه يسهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، في صياغة الفرد الملتقي مع ذاته، المنتمي لوطنه وأمته. ولهذا؛ فإنه يستحق من الجميع، بلا استثناء، العناية والرعاية والدعم؛ لضمان استمراره في أداء وظائفه الدينية والتربوية والاجتماعية.
والمسجد، في الإسلام، هو وقف لصالح المجتمع المستفيد منه. وقد كان أول وقف في الإسلام هو مسجد (قُباء)  الذي أسسه الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مهاجرا إلى المدينة قبل أن يدخلها، ثم بعد ذلك المسجد النبوي بالمدينة، حيث بناه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السنة الأولى للهجرة عند مَبْرَك ناقته حين قدم المدينة([1]).
وعليه؛ فإنه من الأهمية بمكان، أن نتعرف على أهم الاحتياجات والوظائف، والتي يرتكز عليها المسجد؛ كمؤسسة دينية-عقائدية. فأما الوظائف، فهي: وظيفتا الإمام والمؤذن، وما يرتبط بهما من إمامة، وآذان، وخطابة، ووعظ وإرشاد، وتعليم قرآن. وأما الاحتياجات، فهي متعددة، منها: المبنى والممتلكات، والمحافظة على البيئة نظيفة؛ بالمحافظة على النظافة الدائمة، وتأمين المياه الكافية، لمرافقه المتمثلة بمحلات الطهارة والوضوء. كما أن هناك مرافق يستحيل الاستغناء عنها، في عصرنا الحالي، كالإنارة والتدفئة أو التبريد.
وهذا يعني أن هناك ما "يشبه خلية النحل" من العاملين في المسجد و/أو القائمين عليه؛ من موظفين ومتطوعين ومتبرعين وواقفين (يخصصون وقفاً للمسجد)، الأمر الذي يتطلب الوقوف، معمقاً، عند المظاهر السلبية التي تحصل، بين الحين والآخر، بحق المسجد من قبل مختلف أطراف المعادلة؛ بهدف التقييم والتقويم وتصحيح المعوج من الأمر.
وهناك في المملكة العربية السعودية من يقول بوجود انحراف عظيم وخطير في منهاج فقه الأولويات التعليمية والتربوية في المساجد وغيرها، تتعلق بتقديم علوم الشهرة على علوم الخشية؛ أدى إلى العديد من الظواهر السلبية([2])، كما تفيد دراسة منشورة على موقع "إسلام.ويب"([3]) بأن دور المسجد تقلص وضعف؛ وكاد تأثيره أن يكون محصورًا فى مجال العبادات فحسب.
إذا كان ذلك في البلدان الغنية- المستقرة-الآمنة، فكيف سيكون الحال على مساجدنا في فلسطين؟!
تأتي الإجابة، سريعة، على هذا السؤال/ التساؤل؛ بأن المسجد في فلسطين، باعتباره مؤسسة، يتعرض لقوى التجاذب السياسي والفكري والعقائدي التي تعكس، في مجموعها، ما يسود المجتمع الفلسطيني، أضف إلى ذلك الدور الذي يقوم به الاحتلال، وأجهزته، والمرتبطون به وما يعنيه ذلك من محاولات "تخريب" المسجد؛ بما يضمن انحرافه عن الأهداف الذي أنشئ من أجلها.
وعليه؛ ومن منطلق تشخيص الواقع ووصفه، كما هو بلا تجميلٍ أو رتوش، أردنا الإشارة إلى ما ينتاب مساجدنا من ممارسات، وتصرفات، وسلوكيات... الخ؛ ستؤدي، في النهاية، إن لم نرعوِ ونتخلص منها، إلى أن تتكامل مع ما يسعى إليه الاحتلال؛ من إخراج المسجد من معادلات الصراع معه التي تتعلق بالأرض والهوية والوجود الوطني والديني، ومما يمكن ذكره في هذا المقام:
أولاً: فيما يتعلق بالموظفين الذين يتلقون الرواتب الشهرية، من خطباء، ومؤذنين، ووعاظ، ومرشدين... الخ:
·        منهم من يعاني من ضعف، وتدنٍ في المستوى المعرفي؛ على المستويين الفقهي-الشرعي والثقافة العامة الضرورية لربط الشريعة بالواقع. مما ينعكس على نفسية رواد المساجد سلباً؛ فيفقدهم الرغبة في المجئ إلى المسجد بغير هدف تأدية الصلاة.
·        هناك من الأئمة من يسعى إلى توظيف المسجد كمنبرٍ لترويج الأفكار الحزبية و/أو الفئوية الضيقة؛ على حساب الأحزاب والفئات والجماعات الأخرى. مما يؤدي، بلا شك، إلى إشاعة النعرات بين رواد المسجد وجعل المسجد مكاناً للتنافر والتشاحن بدلاً من أن يكون مكاناً لوحدة المسلمين، وسمو خلقهم وأخلاقهم. 
·        يتعامل بعض الأئمة والمؤذنين مع احتياجات المسجد بمجرد وظيفة عادية؛ لا يعنيهم أمره في شئ خارج "دقائق" الصلاة؛ فلا يصرفون من وقتهم وجهدهم للمسجد إلا وفق الوظيفة الرسمية التي يتقاضون عليها الراتب.
·        هناك من موظفي المسجد من يبذل جهداً جدياً من أجل "اختلاس" ما أمكنه ذلك من الوقت المخصص لوظيفته؛ لقضاء حاجاته الشخصية. وهنا؛ تجده يسعى بما يجمل صورته أمام المفتشين؛ الذين يكتبون التقارير المؤدية إلى ترقية من يتبين لهم التزامه بعمله. وبغير ذلك فلا يهم إن تغيب هنا أو هناك، وإن مكث المسجد مهملاً؛ بلا رعاية ولا متابعة لأي شأن من شئونه.
·        هناك من موظفي المسجد من يتقربون من المسؤول ويقنعه بأن "يغض النظر" عنه بشأن أداء وظيفته؛ كأن "يعفيه!!" من صلاة أو أكثر من الصلوات الخمس التي يتقاضى عليها الراتب؛ لأسبابٍ واهية. وينتهي الأمر بأن يستثمر "المأذون له" الوقت لأعماله التي تدر عليه المال، إلى جانب ما يتلقاه من راتبٍ شهريٍ من وظيفته التي يؤديها منقوصة!
·        هناك من الأمناء على الساجد من يسئ استخدام مرافق المسجد، كأن يستهلك من عداد الكهرباء أو عداد المياه الخاص بالمسجد لصالحه أو يتبرع به، بغير وجه حق، للآخرين. أو أن يجمع مجاري منزله و/أو المنازل الأخرى المجاورة للمسجد على "الحفرة الامتصاصية" الخاصة بالمسجد. ومن المؤسف أن يتم هذا كله تحت عنوان: أن "الدولة" أحمل من المواطن!!
ثانياً: فيما يتعلق برواد المسجد وتصرفاتهم المختلفة؛ التي توحي بـ "عدم انتماء" للمسجد كمؤسسة دينية، منها:
·        تصرفات بعض رواد المسجد، وسلوكياتهم، التي تتناقض مع رسالة المسجد الهادفة إلى منع الأذى عن المصلين. ويمارسون "التعسف" في استخدام حقوقهم على حساب حقوق الآخرين وراحتهم وطمأنينتهم، مثل: 1) الجلوس غير المنضبط الذي يحتل مساحات واسعة على حساب الآخرين. 2) إحضار الأطفال الصغار الذين يشيعون الفوضى والصراخ في ذلك المكان المقدس؛ بما يشتت رواده ويسبب لهم الحرج، والإزعاج والغضب.
·        هناك من المجتمعات أو التجمعات المحيطة من يعاني "مسجدها" من ضعف المسؤولية المجتمعية اتجاهه؛ كالمساهمة في تمويله من أجل إعماره و/أو ترميمه وتجميله بما يجعله يسر الناظرين، أو التطوع في تنظيفه وتنظيف حماماته ومرافقه المختلفة.
·        كما أن هناك من تلك التجمعات من يقوم بفرض موظف، أو أكثر، للعمل في المسجد من أجل الحصول على الراتب؛ بالاستناد إلى الاعتبارات العشائرية، أو العائلية، أو التنظيمية... الخ. ويجري هذا كله في حالة من عدم الاكتراث لما يتلك الفرد من إمكانات أو قدرات تؤهله لإشغال الوظيفة التي يُدفَعُ إليها دفعاً.   
ثالثاً: فيما يتعلق بدور الدولة اتجاه المسجد:
·        يقع على عاتق الدولة الكثير من الهموم والقضايا المتعلقة بالمساجد، مثل: المتابعة الحثيثة للمساجد؛ بمراقبة أوضاعها ومراقبة أداء العاملين فيها، ورصد مدى التزامهم بالقيام بالواجبات المهنية و/أو الوظيفية التي عليهم إنجازها.
·        تعاني المساجد من ظاهرة الـ "أنا" أو الذاتية التي يصاب بها بعض المسؤولين، ولعل أكثرها وضوحاً؛ تلك الممارسات التي يقوم بها بعض المديرين عندما يحاول "شطب" إنجازات من سبقوه، وعدم ترك فرصة النجاح لمن سيأتي بعده. أو أن يتعامل مع الدائرة من منطلق الاستعراض باستخدام صلاحياته دون الالتفات للمصلحة العامة؛ كأن يسكت عن التقصير بحق المساجد، وحتى يشارك في ذلك بـ "إعفاء!" بعض الموظفين من تأدية واجباتهم التي يتقاضون عليها رواتبهم، أو أن يتغاضى عن الممارسات الضارة بالمسجد، مقابل أن يحظى بشعبية ما هنا أو هناك.
التعقيب والخاتمة
لقد تطرقنا إلى المشاهد والظواهر المذكورة، من أجل طرق الخزان من الداخل، ولكي نتنبه إلى أن هناك فينا كأفراد ومجتمع ودولة ما يجب أن نضعه تحت الضوء من ممارسات وتصرفات علينا التوقف عندها بالنقد والتحليل. لكي نتنافس، فيما بيننا، على تأدية وجباتنا اتجاه مساجدنا من منطلق الإيمان التام برسالة المسجد، مصداقاً لقوله تعال: "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ" (التوبة: 18).
أما النتيجة التي نستخلصها من هذا كله؛ فهي أن المسجد مؤسسة تربوية-تعليمية-تعلمية، يتمثل دورها الرئيسي في صياغة الفرد والمجتمع؛ باستثمار مبانيه ومرافقه لنشر العلم والمعرفة، ورفع الكفاءات والكفايات للمجتمع المحلي. وعليه؛ فإن أي خلل في أي ركن من أركان المسجد، ببعديه: المادي والمعنوي؛ ينعكس، سلباً، على هذه المهمة التي ننتظر منها مجتمعاً صالحاً، متماسكاً، قادراً على مواجهة أزماته واستعادة حقوقه السليبة.
لأن الذكرى تنفع المؤمنين؛ فلنتذكر، جميعاً، أن الشريعة السمحة مشبعة بما يسعد، عباد الله المؤمنين، في دنياهم؛ بالتمتع بما أحل الله لهم من الخيرات ومن الطيبات، وفي آخرتهم؛ بجنات نعيم عندما يلقى المؤمن ربه بأعمال ترضيه سبحانه، وبما يترك خلفه لمجتمعه ما يجعل أعماله الخيّرة متواصلة؛ لا تنقطع بعد مماته، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"([4]).
وعليه؛ فإن رعاية المسجد من الصدقات الجارية؛ بالإيقاف له (من أراضٍ أو أموالٍ أو مواد عينية)، وإعماره، والالتزام بتأدية واجباتنا اتجاهه؛ وظيفياً و/أو تطوعياً، والمحافظة على موجوداته وممتلكاته؛ التي هي ملك الأمة؛ من جيلٍ إلى جيلٍ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.       
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 06/08/2012م



[1] مجلة البحوث الإسلامية. العدد رقم: 36، الفصل الثاني. ص: 197.
[2] سند البيضاني. المنتدى الفقهي/ موقع الفقه الإسلامي/ المقال رقم "452". انظر: http://www.islamfeqh.com/Forums.aspx?g=posts&t=452
[3] "نعيمة إبراهيم". دور المسجد في حياة الشباب. دراسة منشورة على موقع "إسلام.ويب"، المقال رقم "138978". انظر: http://articles.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=138978
[4] سنن ابن ماجه بشرح السندي - كِتَاب الْمُقَدِّمَةِ - الصدقة المستمرة. ص: 106.

إرسال تعليق Blogger

 
Top