نُشِرَ في القدس المقدسية، بتاريخ:
07/07/2014م، ص20
في عقيدتنا، نحن المسلمين، يعتبر
الصوم الركن الرابع من أركان ديننا الحنيف؛ مما يدل على أنه عبادة لله تعالى؛ يجب
أن تؤدى كما أرادها الله، جل شأنه، من عباده، كحقٍ يؤديه الفرد-المسلم لخالقه، فقد
ورد في الحديث القدسي الشريف: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا
أجزي به".
ليس لعبادة الصوم أي متطلبات خاصة كالمأكل
والمشرب والملبس، ولا أياً من العادات الاجتماعية الخاصة، غير المزيد من التراحم
والتعاضد والتواصل بين الأرحام. فالصوم عبادة تؤدى في أجواء إيمانية بحتة، وفق
المنهج الإلهي المبين في قوله تعالى: "يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" (البقرة:
185).
في
واقعنا المعيش، يشهد شهر الصوم إقبالاً على المساجد للتعبد والطاعات، كما يشهد
إقبال المحسنين على الإحسان لأصحاب الحاجات.. إلا أن الحصيلة العامة لأعمالنا
وممارساتنا، تشير إلى أننا أقرب إلى ظاهرة الإسراف والتبذير والمباهاة والمغالاة
وغيرها من الصور السلبية التي لا بد من التوقف عندها للتخلص منها، ما استطعنا إلى
ذلك سبيلا.
فمنذ
اللحظة التي يُبدأ بالحديث عن شهر رمضان، واقتراب أيامه، يلاحظ المراقب مجموعة من
الظواهر، منها:
1)
تهب الأسر إلى الأسواق لكي (تلحق) ما في السوق من مأكولاتٍ
ومشروبات؛ لكي تخزنها من أجل شهر رمضان، ليبدو الأمر وكأن هناك حرباً قادمة سوف
تمنعنا من مغادرة منازلنا لمدة شهر كاملٍ. مما يحفز التجار، من ذوي النفوس
المريضة، إلى التلاعب في أسعار المأكولات وجودتها ونوعيتها؛ لتحقيق الكسب غير
المشروع.
2)
مقابل ذلك؛ لا نجد نفس الاندفاع نحو المساجد وأماكن العبادة
لكي يحجزوا أماكنهم من أجل الاعتكاف والعبادة والابتهال إلى الله، القادر القاهر
فوق عباده، أن يخلصنا مما نحن فيه من سوء حالٍ وأحوال.
3)
أما الولائم (الوجبات) الرمضانية، على مستوى الأسرة، فحدث ولا
حرج؛ فيهيمن عليها طابع المبالغة والتبذير، من خلال الكميات التي تفيض عن حاجة
(المفطِرين)، وأسعارها المرتفعة التي تجعل كلفة الوجبة (الرمضانية) أضعاف كلفة نفس
الوجبة في الأيام العادية لنفس أفراد الأسرة.
4)
وعلى مستوى الولائم الرمضانية-الخيرية؛ الهادفة إلى إطعام
الفقراء والأيتام والشرائح المجتمعية الأخرى فإنها، في كثير من الأحيان، (ترتد) عن
الهدف الذي أقيمت من أجله، بأن تتحول إلى إفطارات (مهرجانية-احتفالية) يتخللها
مصروفات و(بهرجات)، ليست من عبادة الصوم في شئ، ولا تتعلق بإشباع حاجة الملهوفين
والجوعى والفقراء والمعوزين.
5)
أما المسارح والحانات والأماكن السياحية والملاهي والمراقص
ودور السينما(إن وجدت)، فإنها تفتح ذراعيها (للصائمين!!) وتفتح جيوبها لأموال
(الصائمين!!)؛ لكي تجعلهم (يتمتعون!!) بأجمل السهرات (الرمضانية!!).
6)
حتى صدقة الفطر، التي هي حق (معلوم) للفقراء والمساكين وغيرهم
من الفئات التي يجب أن تؤدى لهم؛ فإن هناك من (يتململ) عند دفعها، ليترك تأديتها
حتى اللحظة الأخيرة. علماً بأن الأمر الإلهي واضح في هذا الجانب؛ ولا يحتمل
التأويل، إذ يقول تعالى: "خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا"
(التوبة: 103)، كما أن هناك ضوابط في إعطاء تلك الصدقات وغيرها من العطايا؛ بأن لا
يتم تبذيرها ووضعها في غير مواضعها، فيقول تعالى: "وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا" (الإسراء: 26).
7)
أما الظاهرة المعاصرة، الأكثر إيلاماً، في المشهد، والتي
(تتأجج) في شهر رمضان؛ فهي تلك التي يقوم بها بعض أعضاء مواقع التواصل الاجتماعي
(الفيسبوك) من عرض للمأكولات التي يقومون بتصنيعها في منازلهم، ليس بهدف تبادل
الثقافات والمنفعة المتبادلة؛ بل بهدف التباهي والمبارزة، والاستعراض في البذخ
والصرف على الموائد الرمضانية. الأمر الذي يدفع الأسر والأفراد إلى المزيد من
(التبذير) والإسراف. هذه الظاهرة التي أول من نبهني إليها، ودعت إلى محاربتها منذ
اليوم الأول من رمضان الحالي (للعام 2014)، الكاتبة "خولة
سالم العواودة".
إذا
كان المذكور أعلاه يعبر عن الأمة الإسلامية، بمختلف شعوبها، فإننا في فلسطين، على
وجه الخصوص، بحاجة إلى أن نتذكر ما يلي:
1.
إننا نعيش تحت (حِراب) الاحتلال الذي يسعى إلى إفقارنا، بكل
السبل، من أجل السيطرة على أراضينا ومقدراتنا، وأن هناك (25%) من أبناء شعبنا
يعانون من الفقر، و(13%) يعانون من "فقر مدقع" (بنسبة)، كما أن حوالى
27% يعانون من البطالة.
2.
لكي نقترب من حقيقة الأوضاع الفلسطينية أكثر، أردت الاستناد
إلى الكتيب الصادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بعنوان: فلسطين في
أرقام-2013، للخروج بالنتائج التالية، الخاصة بانعكاس شهر رمضان على مجتمعنا، وفق
ممارساتنا نحن:
· يبلغ متوسط الاستهلاك الشهري للأسرة الفلسطينية من الطعام،
في كل من الضفة وغزة (351) ديناراً أردنياً، وإذا علمنا أن عدد الأسر الفلسطينية
ضمن هذه الجغرافيا هو (846,313) أسرة، فإن هناك (297) مليون دينار أردني تصرفها
الأسر الفلسطينية في الأشهر العادية من السنة.
·
بالنسبة لمصروفات شهر رمضان، فإذا قدرنا بأنها تزيد بنسبة 30% عن معدلها العادي،
فإن هناك حوالى (89) مليون دينار أردني (تعادل 445 مليون شيكل) (نهدرها) في كل
شهرٍ رمضاني، تحت عنوان "مصروفات رمضان". علماً بأن هذا المبلغ لو وزّع
على الأسر الفقيرة وذات الفقر المدقع لأنقذ حوالى (254) ألف أسرة، بأن يوفر لهم
إفطارات كريمة في بيوتهم. أضف إلى ذلك ارتفاع الأسعار، ورداءة البضاعة، والأمراض،
الطارئة والمزمنة، الناجمة عن سوء التغذية (بسبب إساءة تنظيم تناول الغذاء بطريقة
صحية)، وما يتبعه من مصروفات طائلة استعداداً لعيد الفطر.
3.
إن أسرانا الذين يقدر عددهم بحوالى 5,000 أسير؛ هم رمز
كرامتنا الوطنية الذين قدموا حريتهم، من أجل حريتنا، وفقدوا حنان أبائهم وذويهم من
أجل أن نحيا نحن حياة آمنة مطمئنة مع أسرنا، يخوضون معركة (حامية الوطيس) مع
سجّانيهم بأمعائهم الخاوية. ألا يستحق منا هؤلاء الأسرى وأُسرهم التي يزيد عددها
عن الـ (1000) أسرة أن "نستتر" عندما نأكل ونشرب، وهم يعانون آلام الجوع
وآلام الفرقة عن الأهل والولد، وأمهاتهم وزوجاتهم (يتحرقن) شوقاً للغائب خلف قضبان
الاحتلال؟
بقي
أن أتوجه إلى كل فردٍ من أبناء شعبنا وأمتنا أن يتقي الله في هذا الشهر الفضيل؛
بأن يتجه ببوصلة فكره وتفكيره نحو العبادة والتقرب من الله، وأن يزيحها، قدر
الإمكان، عن المأكولات و(البهرجات) الأخرى التي ما أنزل الله بها من سلطان، لأنه
بذلك فقط يكون شهر رمضان شهر عبادة، ونخلصه مما التصق به، عبر الزمن، من عادات
بائسة ليست من الدين في شئ. ونتوجه لأبناء أمتنا، في مشارق الأرض ومغاربها،
بتذكيرهم بقول الله تعالى: "وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ" (الأعراف:
31). أي أن هناك أمراً إلهياً بضرورة أن نأكل ونشرب، ولكن لهذا الأكل والشرب شرط
أساسي وهو عدم الإسراف والمبالغة في الاستهلاك، بما يصل بالأمر إلى حد التبذير
ورمي الفائض إلى الحاويات.
ولنجمع
الرأي والسلوك، معاً، لنجعل شهر رمضان "شهر عبادة" وابتهال إلى الله،
وليس "شهر استعراض" للمأكولات والملبوسات والعادات السيئة التي ليست من
الدين في شئ.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 30/06/2014م
إرسال تعليق Blogger Facebook