0

نُشِرَ في مجلة الإسراء. تصدر عن دار الإفتاء الفلسطينية. العدد 115 (أيار وحزيران-2014) ص ص: 29-35


قال تعالى في محكم كتابه العزيز: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (الإسراء: 1). إذا توقفنا عند هذه الآية الكريمة وتدبرنا معانيها، فإننا سنكتشف أنها مشبعة بشهادات ميلادٍ حقيقيةٍ للأمة الإسلامية.
فعلى مستوى حجم المسؤوليات الملقاة على عاتق الأمة؛ تأكد مدى مسؤولية الأمة الإسلامية تجاه البشرية جمعاء، ليس منذ لحظتها وحسب؛ بل المسؤولية عنها منذ الخليقة وإلى أن يرث الله، جل شأنه، الأرض ومن عليها، فقد "حمل الله نبي البشرية جمعاء على البراق حين أتاه به وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه ما أراه من الآيات"[1].
وعلى مستوى الجغرافيا التي تتولى الأمة المسؤولية عنها؛ ففي رحلة الإسراء خروج من مكة إلى موقع بعيدٍ جداً عنها (الأقصى). بذلك؛ تكون المهمة الأولى لرسول البشرية صلى الله عليه وسلم خارج مكة وفي أقاصي الأرض. وفي ذلك تكليف صريح وواضح للأمة بأن مسؤوليتها الجغرافية لم تعد محصورة في مكة أو في محيطها القريب؛ بل تنطلق من مكة لتشمل أقصى مكانٍ على سطح الأرض.
 أما بالنسبة للمسجد الأقصى؛ فإن في هذه الآية الكريمة شهادة ميلادٍ له إذ أنه "لم يكن يحمل هذا الإسم قبل نزول هذه الآية، فالله هو الذي سمَّاه بهذا الاسم، والأقصى بمعنى الأبعد، أي الأبعد عن مكة، وهي أول مرة يذكر فيها، وبعدها عرف عند المسلمين بهذا الاسم([2]).
وقد تعززت مكانة المسجد الأقصى منذ اللحظة الأولى لمسماه الجديد، إذ أنه "المكان الوحيد في الأرض الذي اجتمع فيه كل أنبياء الله من لَدُن آدم عليه السلام حتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في أعظم اجتماع في التاريخ وصلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالأنبياء إماما في ليلة الإسراء إقراراً لصبغته الإسلامية ولإمامة امة محمد على المسجد الاقصى، وإعلان وراثة الرسول صلى الله عليه وسلم -خاتم الأنبياء- لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات وارتباط رسالته بها جميعا، ووراثة الدين الإسلامي ما سبقه من الأديان.[3]
لذا؛ فإن ذكرى الإسراء والمعراج مناسبة، يجب التوقف عندها، مليّاً، بالدراسة والتحليل واستخلاص العبر واستذكار البطولات والنماذج الحية من تاريخ الأمة وماضيها العريق الذي يفوح عبقه في الزمان والمكان، كلما ذكر قادتها العظام الذين أبلوا بلاءً حسناً في نشر الرسالة وإيصالها إلى كل مكان على هذا الكوكب. وذلك بهدف رسم ملامح المستقبل الواعد الذي يقودنا إلى الانتصار على فرقتنا وتشرذمنا، واستعادة الأمة لمكانتها. الأمر الذي لا يمكن تحقيقه إلا بالهمة العالية والإرادة الصلبة النابعة من روح العقيدة السمحة التي جاء بها الإسلام لنقل البشرية من ظلمات الجهل والظلم، إلى نور العلم والعدل.
نظراً لضيق المجال فإن الجزئية التي سيتناولها هذا المقال تتعلق بالمسجد الأقصى؛ الذي هو المسرح الرئيس لحادثة الإسراء والمعراج، وهو المكان الذي ترنو إليه الأمة كمكانٍ له رمزية خاصة في نفس كل مسلمٍ ومسلمة، منذ الشعاع الأول للرسالة المحمدية.
وفي هذه الأيام؛ يمر المسجد الأقصى؛ ببعديه: المكاني والتاريخي، في مرحلة خطرة  تهدد وجوده كمؤسسة تشكل القبلة الأولى للأمة. ونظراً لحجم تلك المخاطر وتعدد مصادرها، فإننا سنكتفي، في هذه العجالة، بالإشارة إلى أبرز تلك المخاطر، التي ستؤدي، إن لم تصحُ الأمة وتستفيق، إلى "تهويد" المسجد الأقصى، و"إلحاقه" بالمؤسسة الدينية الصهيونية تمهيداً لبناء ما يسمى "الهيكل الثالث". وأما الإجراءات التي تتسارع أحداثها بهذا الاتجاه فهي كثيرة ومتعددة، منها:
أولاً: الاجتياحات والاقتحامات المتكررة:
إذ يتعرض المسجد الأقصى، وبشكل مبرمج، إلى اقتحامات متكررة" للمتطرفين اليهود بعلم حكومة الاحتلال، وبمشاركة موظفي الدولة الرسميين، وبتوجيه من أجهزتها الأمنية. تلك الاقتحامات التي تستهدف المسجد الأقصى وساحاته وباحاته، والتي كان آخرها إطلاق دعوات للاحتفال بـما يسمى “عيد البوريم-المساخر” العبري في باحات المسجد الأقصى، والإعلان عن سلسلة من الأنشطة تتضمّن تنظيم اقتحامات جماعية للمسجد[4]. ومما تهدف إليه هذه الاقتحامات:
1) تحويل المسجد الأقصى إلى منطقة مفتوحة أمام اليهود والسياح، ليأخذ شكل المتحف والمزار السياحي؛ لتنتزع عنه هيبته ومكانته وطبيعته الإسلامية. [5]
2) "جس النبض" وترويض الرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي، تدريجياً، للوصول إلى اليوم الموعود؛ الذي يتم فيه "اجتياح" المسجد الأقصى وفعل فعلتهم الموعودة في إقامة الهيكل المزعوم.[6]
ثانياً: الحفريات:
يواصل الاحتلال الليل بالنهار، سراً وعلانية، عمليات حفر ضخمة تحت المسجد الأقصى وبالقرب من جداريه الغربي والجنوبي، يُتبعها بإنشاء الأنفاق والمباني الـ "تحت أرضية" من قاعات ومعابد ومكتبات... الخ. ويتركز هذا الأمر، حالياً، في منطقة باب المغاربة وسلوان لأهداف مختلفة، منها:[7]
1)    هدم طريق باب المغاربة، لإنشاء كنيس لليهوديات، وحفر نفق طويل يخترق الأقصى، بالإضافة إلى إنشاء جسر عسكري؛ يمكنهم من اقتحام المسجد الأقصى بأعداد ضخمة من الحنود دفعة واحدة.
2)    كشف أساسات المسجد الأقصى، وتنفيذ شبكة من الأنفاق تمتد من سلوان جنوباً وحتى باب العمود شمالاً.
3)    مخطط لتطويق المسجد الأقصى بثمانية مبانٍ ضخمة كمرافق للهيكل المزعوم.
4)    محاصرة المسجد الأقصى بتسع "حدائق تلمودية" على مساحة (3000) دونم.
5)    زراعة آلاف القبور "الوهمية" اليهودية حول المسجد الأقصى وفي القدس القديمة.
ثالثاً: تكامل الأدوار بين أركان الاحتلال؛ لتهويد القدس والمسجد الأقصى:
هناك حالة "تناغم"، وتبادل أدوار، بين أركان المؤسسة الاحتلالية في تعاملها مع الشأن المقدسي، لا سيما فيما يتعلق بالمسجد الأقصى بالذات؛ فالكنيسيت تشرّع القوانين، والحكومة تنفذها. أما التمويل (السخي) فتقوم به الجمعيات الصهيونية والأفراد من الأثرياء الصهاينة، المنتشرين على طول هذا الكوكب وعرضه، حيث يمولون تلك المشاريع ويدعمون التشريعات بالأموال الطائلة.
فعندما قررت الكنيسيت الاسرائيلية مناقشة نقل ”السيادة والولاية” على المسجد الأقصى للاحتلال الاسرائيلي بدلا من المملكة الأردنية رافق ذلك دعوة أطلقتها ربانيم؛ وهي مرجعيات دينية يهودية، للمشاركة في صلوات يهودية جماعية في المسجد الأقصى بهدف إنجاح النقاش ودعم الفكرة وإسنادها[8].
ولعل من أبرز الأمثلة على التمويل، أنه في العام (2009) تجاوزت ميزانية بلدية القدس المليار دولار. كما أن هناك أعداداً من الجمعيات والمؤسسات الممولة بمئات الملايين من الدولارات من أثرياء يهود و"مسيحيون صهاينة" من خارج اسرائيل، منها: 1) جمعيات استيطانية، مثل: عطيرت كوهانيم (أو تاج الكهنة)، مؤسسة إلعاد الاستيطانية (أو مدينة داود)، جمعية الحفاظ على تراث الحائط الغربي، جمعية أمناء جبل المعبد. 2) جمعيات ومؤسسات أهلية، مثل: مؤسسة يد سارة ومؤسسة صندوق القدس اليهودية.[9]
أما تهجير المقدسيين الفلسطينيين وإفراغ القدس منهم؛ فتتولى أمره بلدية الاحتلال، بالتخطيط لإحداث خلل كبير في نسبة وجود الفلسطينيين في القدس على المستويين الجغرافي والديموغرافي في حدها الأدنى، بحيث تكون أقل بكثير مما لليهود. حيث تشير الدراسات  إلى أن نسبة العرب المقدسيين في عام 2020 ستكون %40 من المجموع العام، وفي عام2040  ستكون 55%. لذلك؛ وضعت البلدية مخططاً لما تكون عليه القدس عام 2020 يقضي بترحيل السكان الفلسطينيين من البلدة القديمة بحجة الكثافة السكانية العالية وان هنالك بيوتاً آيلة للسقوط أو بيوت غير صالحة للسكن، ونقل التعليم الفوق ابتدائي إلى خارج الأسوار.[10]
ولا يفوتنا هنا التنبيه إلى أن سكان البلدة القديمة من القدس هم الملاصقون للمسجد الأقصى والملتصقون به، قلباً وقالباً، والذين يراقبون، عن كثب، كل ما يجري فيه، وما يجري حوله، وما يُخطط له من سوء، وهم "المتمترسون-المتخندقون" في خطوط الدفاع الأولى عنه كلما داهمه المستوطنون، وكلما ادلهم عليه الخطب لأي سبب كان. وبالتالي؛ فإن طردهم من أماكن سكناهم هو خطوة خطيرة للغاية على طريق "تعرية" المسجد الأقصى وكشف "ظهره" لتسهيل عملية تهويده في غفلة من الزمن.
إن ما ورد أعلاه من إجراءات يقوم بها الاحتلال؛ ما هي إلا نذر يسير مما يجري على الأرض، وبشكل متسارع. وقد أردنا، في هذه المناسبة العزيزة على كل مسلمٍ ومسلمة في أصقاع المعمورة، أن نلفت النظر لما يجري لمسجدهم ذي القيمة العقائدية العظمى، وفق ما هو موصوف أعلاه، من عملية تهويد "مبرمج" بمنتهى الدقة، ووفق خطط محكمة، لا يقف في وجهها، حتى اللحظة، سوى فئة قليلة مؤمنة برسالتها اتجاه قدسها وأقصاها، هذه الفئة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ"[11].
وإذا ما علمنا بأن المسجد الأقصى "ميراث الأمة المسلمة، وأن الإمامة عليه لا بد وأن تكون في يدها، وهذا ما وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم أمته وحملهم مسؤولية الحفاظ عليه"[12]، فإننا نتوصل إلى نتيجة مفادها أن "الأقصى عقيدة"، الأمر الذي يتطلب من كل بالغٍ-عاقلٍ من أبناء الأمة أن يأخذ الدور المنوط به في عملية الدفاع عن المسجد الأقصى الذي سيتم تهويده، إن عاجلاً أو آجلاً، إن بقي حال الأمة كما هو عليه.
نقول هذا ونحن على ثقة تامة بأن الأمة حبلى بالخير والخيرين، فقد ورد في الحديث الشريف: "مثل أُمَّتِي مثل الْمَطَرِ لا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ"[13].
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 18 آذار، 2014م



[1] انظر: تفسير الطبري للآية رقم -1- من سورة الإسراء.

[2] موقع قصة الإسلام، إشراف: د. راغب السرجاني. دخول عمر بن الخطاب القدس واستكمال فتح الشام. 1/5/2006م. انظر: http://islamstory.com/ar/

[3] القدومي، عيسى (بدون تاريخ). المسجد الأقصى: حقائق لا بد أن تُعرف. جمعية إحياء التراث الإسلامي، لجنة العالم العربي، بالتنسيق مع مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية.

[4] انظر: موقع مؤسسة الأقصى للوقف والتراث. دعوة لتحرك عربي عاجل لمواجهة اقتحامات الأقصى. بتاريخ: 17 آذار، 2014م.

[5] صالح، محسن (2011). معاناة القدس والمقدسات تحت الاحتلال الإسرائيلي. مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات. بيروت، لبنان. ص: 21.
[6] العصا، عزيز (2014). الأقصى عقيدةٌ.. فمن يذودُ عنه؟!. صحيفة القدس، بتاريخ: 26 شباط، 2014م، ص19.
[7] أبو عطا، محمود (2012). تقرير: هجمة شرسة على المسجد الأقصى. مؤسسة الأقصى للوقف والتراث.
[8] عن: موقع مؤسسة الأقصى للوقف والتراث، بتاريخ: 17/2/2014م.
[9] صالح (2011)، مرجع سابق، ص: 18-19.
[10] تفكجي، خليل (2007). الإجراءات المفروضة بخصوص الحصول على تراخيص البناء في القدس. سلسلة: إعرف حقوقك. دائرة النظم والمعلومات، جمعية الدراسات العربية. ص: 27-28.
[11] صحيح مسلم، باب: بَاب قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ .
[12] القدومي، مرجع سابق.
[13] موسوعة الحديث. إسلام ويب. انظر: http://library.islamweb.net/hadith/display_hbook.php?hflag=1&bk_no=1849&pid=910177

إرسال تعليق Blogger

 
Top