لأن إسرائيل ترى في الأسرى الخصم الرئيس لها في صراع وجودها على هذه الأرض، ولأنها ترى فيهم قادة يتقدمون الصفوف في السياسة والفكر والإبداع، بل هم أنفسهم الذين يبثون في شعبهم روح الأمل والتفاؤل بمستقبل مُشرق، فإنها لا تألُ جهداً في محاصرتهم والضغط عليهم؛ بما لا يحتمله بنو البشر. حتى أضحت قضايا أسرانا البواسل وظروفهم المأساوية مرئية، بوضوحٍ، لمن هو فاقد البصر، كما أنها مسموعة، بوضوح أيضاً، لكل من به صمم.
وعليه؛ فلم يعد ممكناً تأجيل المواجهة مع السجن والسّجّان، إلى أجلٍ غير مسمى. بل أن الأسرى، بمختلف فئاتهم، أصبحوا يخبرون كيفية المواجهة والتصعيد في الوقت المناسب لانتزاع حقوقهم من السجان. وفي جميع تلك المواجهات كان "الإضراب عن الطعام" هو الملاذ الأخير في مواجهة الرفض والتعنت من قبل الاحتلال.
ولمن لا يعلم ما هو الإضراب المفتوح عن الطعام، نقول: "إنه امتناع الأسير عن تناول كل أصناف المواد الغذائية وأشكالها الموجودة في متناول الأسرى باستثناء الماء وقليل من الملح" (انظر: http://www.qudsn.ps/article/9168). أي أنه معركة "الأمعاء الخاوية" بما للكلمة من معنى.
تؤكد الإحصائيات والوثائق المتوفرة بين أيدينا على أن الأسرى الفلسطينيين هم أكثر من استخدم هذا الأسلوب في مواجهة السجن والسّجان، بدءاً بإضراب العام 1968، في سجن نابلس، الذي خاضه الأسرى احتجاجاً على سياسة الضرب والإذلال التي كانوا يتعرضون لها على يد الجنود الإسرائيليين، وما تبعه من إضرابات مطلبية لتحسين أوضاعهم المعيشية والإنسانية، وانتهاءً بالإضراب الذي نحن بصدده هذه الأيام؛ وهو إضراب "الأسرى الإداريون". وفي جميع تلك الإضرابات تمتع الأسرى بروح التلاحم والتعاضد والاستعداد للاستشهاد عن طيب خاطر؛ كوقود للمعركة القائمة بين الحق والباطل.
وإذا تتبعنا موضوع الأسرى الإداريين نجد أن فيه ما يندى له جبين البشرية؛ إذ أن الاحتلال يتجاوز كل الأعراف والقوانين والنظم ونواميس الكون؛ عندما يقوم باعتقال الفلسطينيين والزج بهم في السجون، دون (تهم!!) ولا محاكم وبدون تحديد لمدة الاعتقال، ما عدا أنه يقرر زج الأسير لمدة ستة أشهر يتم تجديدها وفق أهواء الحاكم، وقد تستمر لبضع سنوات بتواصل.
إذا ما علمنا بأن الأسرى الإداريين هم من نخب الشعب الفلسطيني؛ فمنهم الأكاديميين، والمفكرين، والسياسيين، وفي الآونة الأخيرة تم التركيز على النواب المنتخبين من قبل جماهير الشعب الفلسطيني، فإننا ندرك ما الذي يرميه الاحتلال من وراء هذا النوع من الاعتقال، من أنه يسعى إلى (إفراغ) المجتمع الفلسطيني من قادة الفكر والسياسة، لاعتقاده أنه بذلك قد يُخمد حالة المقاومة، بأشكالها المختلفة، للاحتلال ومخططاته الرامية إلى ابتلاع الأرض، وتوسيع الاستيطان الهادف إلى (ابتلاع) الدولة الفلسطينية الموعودة.
وإذا ما علمنا بأن عدد الأسرى الإداريين حوالي (200) أسير (حوالى 5% من الأسرى الفلسطينيين) وأن عدد المنضمين إلى هذا الإضراب الذي وصل إلى (120) أسيراً حتى اللحظة، ومن سينضم إليهم لاحقاً، فإننا نكون أمام إضراب سياسي، وليس مجرد مطلبي، يسعى إلى "كسر" المنهج الاحتلالي في تعامله مع الشعب الفلسطيني، كما أننا أمام حدثٍ جديد تدخله السجون يتمثل في أول إضرابٍ جماعي ضد الاعتقال الإداري.
لذلك؛ فإنه لا بد من الوقوف الجاد والفاعل من قبل الجهات والمؤسسات، الرسمية والشعبية، خلف هذا الإضراب السياسي-المطلبي الذي يشكل حلقة هامة من حلقات الاشتباك الدائم مع الاحتلال الذي يسعى، بلا كلل أو ملل، إلى كسر الإرادة الوطنية لشعبنا. كما أنه لا بد من "تأجيج" الحالة الوطنية بشأن الأسرى، جميعاً بلا استثناء، باعتبار حريتهم وتحررهم واحد من الثوابت الفلسطينية إلى جانب العودة والدولة وتقرير المصير. نقول هذا ونحن نبتلع دمعة حارقة على أسرانا الذين "نتألم" لفراقهم، والذين "يألمون" لفراق الأم والزوج والولد.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 05/أيار/2014م
عزيز العصا/ نُشِرَ في القدس، بتاريخ: 12 أيار، 2014م، ص19
إرسال تعليق Blogger Facebook