لا شك في أن قضية الأسرى، والمطالبة بحريتهم وتحريرهم، أصبحت واحداً من الثوابت الفلسطينية التي لا تقل أهمية عن العودة والدولة وتقرير المصير. الأمر الذي يتطلب منا التوقف، بوعي، وبفهم دقيق، للتفاصيل المتعلقة بكل شأنٍ من شئونهم.
ففي تقريرها الدوري لمجلس حقوق الإنسان، في شهر آذار من العام 2013، عن الوضع في الأرض الفلسطينية المحتلة أعربت المفوضة السامية لحقوق الإنسان، نافي بيليه عن القلق البالغ بشأن وضع آلاف المعتقلين الفلسطينيين لدى إسرائيل(( .
كما أظهر تقرير إسرائيلي صادر عن دائرة المحاماة العامة في (تل أبيب)، أن آلاف الأسرى الفلسطينيين يعانون من ظروف اعتقالية غير إنسانية، حيث أن المعتقلات الإسرائيلية تعجّ بالأسرى الذين يعانون اكتظاظاً وازدحاماً شديداً، وأرجع التقرير السبب الرئيسي في مشكلة ازدحام السجون الإسرائيلية إلى ارتفاع معدل الاعتقالات في الأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل كبير( ).
وفي هذا المجال يقول "معتصم عوض" في تقرير منشور في وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)( ): "يختلط على كثير من الناس، وبخاصة السياسيين والإعلاميين وحتى الحقوقيين والعاملين في مجال حقوق الإنسان، التوصيف القانوني للفلسطينيين المحرومين من حريتهم في السجون الإسرائيلية. وثمة توصيفين أساسيين لهم: الأول: يعتبرهم معتقلين؛ وتنطبق عليهم اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، أما الثاني: فيعتبرهم أسرى حرب؛ وتنطبق عليهم الحماية المقررة لهم في اتفاقية جنيف الثالثة".
تشير الإحصائيات إلى أنه منذ العام 1967 حتى تاريخه قامت قوات الاحتلال باعتقال (800,000) فلسطيني، استقر عددهم، حتى اللحظة عند (5000) أسيراً وأسيرةً، عميدهم الأسير كريم يونس (منذ 31 عاماً)، وعميدتهن "لينا الجربوني" (منذ 12 عاماً)، وهما من فلسطين المحتلة منذ العام 1948.
إذا ما علمنا بأن العدد المذكور يشكل خُمس الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخية، فإننا نجد أن الشعب الفلسطيني، بجميع فئاته وشرائحه الاجتماعية والعمرية وحتى المرضى والمعاقين، قد عانى، بشكل مباشر و/أو غير مباشر، من الأسر وعذاباته، كما مورس بحقهم سياسة ثابتة ومتكررة من الإذلال، والإهانة، والانتقام؛ حتى أضحت ظاهرة يومية مؤلمة ومقلقة للمنظمات الدولية التي تتابع الشأن الفلسطيني.
لذا؛ يجد الباحث في موضوع الأسرى أن تصنيفهم يخضع لمعايير متعددة بقدر أعمارهم، ومدد الأسر، وبطولاتهم، وأشكال صمودهم، وحجم تضحياتهم. ولأن هذه العجالة لا تتسع للتطرق إلى تلك التفاصيل؛ فقد اخترنا الحديث عن فئة من أسرانا؛ تشكل رمز المعاناة والصبر والصمود، وهم: الأسرى المرضى الذين يشكلون 28% من العدد الإجمالي للأسرى الفلسطينيين.
تشير البيانات الإحصائية والتقارير الصادرة عن وزارة شئون الأسرى والمحررين الفلسطينية، والمواقع الأخرى المتخصصة في شئون الأسرى، بخاصة موقع: فلسطين تحت القضبان، إلى مجموعة من المعطيات لا بد من التوقف عندها بالمراجعة والتحليل، منها:
1. يبلغ عددهم نحو (1500) أسيراً وأسيرة، يعانون من: 1) أمراض مختلفة؛ كالسرطان وغيره من الأمراض المزمنة و/أو القاتلة، 2) الحاجة إلى عمليات عاجلة وضرورية، 3) معاقون إعاقات مختلفة (جسدية وذهنية ونفسية وحسية)، 4) الإقامة الدائمة في ما يسمى مستشفى سجن الرملة، الذي يستقبل (150) حالة مرضية شهريا؛ مما يشير إلى ارتفاع نسبة المرضى من الأسرى، وتدهور الحياة الصحية لكثير منهم؛ بسبب قلة العناية الصحية، والمماطلة والتسويف من قبل "السجانين" في إجراء الفحوصات والعمليات الجراحية( ).
2. عيادات السجون لم تعد محل ثقة لدى الأسرى؛ لأنها لا تقوم بالدور الإنساني الملقى على عاتقها، وآخر الأمثلة على ذلك:
• عميدة الأسيرات "لينا الجربوني" التي تعاني من أورام مختلفة في الجسد، وأوجاع في القدمين، بالإضافة إلى وجع الرأس المتواصل، يقابله في الجهة الأخرى إهمال طبي متعمد، من قبل إدارة مصلحة السجون الصهيونية.
• تبين أن سجن نفحة الصحراوي، بات مرتعاً للأوبئة والأمراض، ومكان مكتظ بالحشرات والقوارض والفئران، فضلا عن تزايد أعداد الأسرى المرضى داخل هذا المعتقل، وأن عدداً كبير من الأسرى فيه يعانون من الحساسية والأنفلونزا والطفح الجلدي.
• شهد العام الحالي (2014) العديد من حالات المماطلة والتسويف بشأن علاج الأسرى المرضى ذوي الأورام، منهم: الأسير ناجي عرار يعاني من ورم بالرقبة وهو بحاجه لتدخل جراحي, الأسير حسن فهد عرار تم تقرير إجراء عملية بالقدم منذ عامين ولم يتم إجراؤها، الأسير جمعة صباح بحاجه إلى عملية بواسير وقد تم نقله من اجل إجراء العملية ثم أعيد إلى السجن دون إجراء العملية، الأسير رشدي هديب: يعاني من وجود أورام داخلية بمنطقة الظهر والجانب الأيمن، الأسير هيثم صالحية بحاجه إلى عملية استئصال ورم من تحت الفك وتم إدخال الأسير إلى غرفة العمليات وإخراجه منها دون إجراء العملية.
• أضف إلى ذلك ما جرى مع الأسير محمود زهران (في العام 2013)، الذي يعاني من وضع صعب بسبب الجروح التي أصيب بها بسبب الاعتداء عليه من قبل السجانين، وعند نقله لعيادة السجن لم يمكث سوى خمس دقائق، ثم نقل إلى الزنازين وهو مقيد اليدين والقدمين بالسرير( ).
• هناك أسرى تتردى أحوالهم الصحية بسبب نقص الفيتامينات وغيرها من مكونات الأغذية التي يُحرمون من شرائها و/أو تناولها، حتى وصلت الأمور بسلطات السجون إلى تحدي قرارات من المحاكم الاحتلالية بهذا الشأن، كما حصل مع الأسير "إبراهيم حامد" الذي قررت المحكمة في كانون الأول عام 2009 السماح له بشراء خضار وفواكه ولحوم؛ كونها تحتوي على فيتامين B12، وعلى الرغم من قرار المحكمة إلا أنه لم يسمح له بذلك، كما لم يُسمح له بعلاج أسنانه. فبقي المرض يداهم جسده المحاصر، المعزول، في زنازين عسقلان( ).
3. وعليه؛ فإن قضية الإهمال الطبي هي قضية متعمدة، والهدف منها تحويل الأسير المريض من إنسان يعاني من أمراض مؤقتة إلى إنسان يعاني من أمراض مزمنة( ). أي أن أسرانا الرابضين في سجون الاحتلال يعانون مرارة السجن والسجان في آنٍ معاً؛ فالسجن وظلمته من جانب، واستهتار السجان وعدم أهليته القانونية والإنسانية من جانبٍ آخر.
4. والنتيجة الأكثر مرارة؛ هي أن السجون الاحتلالية قد أصبحت بدائل لأعواد المشانق؛ فبداخلها يجرى أبشع عمليات القتل الـروحي، والنفسي، والتعذيب الجسدي، وبداخلها يتم إعدام الأسرى بشكل بطيء( ).
5. مما جعل الأسرى يفتحون الملف الطبي على مصراعيه، والعمل مع الجهات المسؤولة؛ الرسمية والحقوقية كافة لمتابعة هذا الملف، وإثارته، على المستويات كافة، لأنه أصبح يشكل كابوساً عليهم يُضاف إلى كوابيس السجن والسجان الأخرى التي لا تعد ولا تحصى( ). فقرروا أن يخوضوا معركة ذات عناوين عديدة، من بينها( ): 1) تحسين الخدمات الصحية والطبية، 2) عدم الانتظار لسنوات من اجل إجراء عملية جراحية و3) السماح بإدخال أطباء من الخارج للمعاينة الصحية والاطلاع على التقارير الطبية.
يجري هذا كله، بحق أسرانا، في حين أن اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة تتضمنان ما يلي بشأن أسرى الحرب:
أولاً: ممن ينطبق عليهم وصف أسرى الحرب: "أفراد الملیشیات والوحدات المتطوعة، بمن فيهم أعضاء حركات المقاومة المنظمة، الذین ینتمون إلى أحد أطراف النزاع ویعملون داخل أو خارج إقلیمهم، حتى لو كان هذا الإقلیم محتلاً"( ).
ثانياً: تجرى فحوص طبية للمعتقلين مرة واحدة على الأقل شهرياً. والغرض منها بصورة خاصة مراقبة الحالة الصحية والتغذوية العامة، والنظافة، وكذلك اكتشاف الأمراض المعدية، وبخاصة التدرن والأمراض التناسلية والملاريا (البرداء). ويتضمن الفحص بوجه خاص مراجعة وزن كل شخص معتقل، وفحصاً بالتصوير بالأشعة مرة واحدة على الأقل سنوياً( ).
بالرغم من تلك النصوص الواضحة من الاتفاقيات، والمعاهدات، واللوائح التي تنطبق على أسرانا وتحفظ حقوقهم، إلا أننا نجد المنظمات الحقوقية الدولية تصم آذانها، وتغمض عيونها عما يجري بحق أسرانا، بخاصة المرضى منهم. الأمر الذي اضطر الأسرى إلى مواجهة السجن والسجان، وتحصيل أجزاء يسيرة من حقوقهم، بأمعائهم الخاوية التي كان آخرها ذلك الإنجاز الذي حققه الأسير "سامر العيساوي" بتحطيم القيد بعد إضرابٍ عن الطعام لما يزيد عن تسعة أشهرٍ متتالية. بالإضافة إلى ما أنجزه الأسرى الأردنيون على مستوى الإعلام؛ بلفت النظر إلى قضيتهم من خلال إضرابهم عن الطعام، أما الأسير "عبد الله البرغوثي"، فقد ضرب مثالاً يُحتذى في الصبر والصمود من خلال إضرابه عن الطعام حتى المشارفة على الموت.
أما نحن، من جانبنا، فيتطلب الأمر منا، كل من موقعه، التحرك الجاد والفاعل من أجل تحقيق ما يلي:
1) العمل على فضح الممارسات الاحتلالية لما تقوم به من انتهاكات للحقوق القانونية والإنسانية للأسرى ولأسرهم وذويهم. واعتبار الدفاع عن هذه الحقوق واجب وطني وديني وإنساني تجاه قضايا الأسرى؛ بمختلف تصنيفاتهم وهمومهم.
2) التحرك باتجاه المناصرين لقضايا التحرر الوطني؛ ممن يؤمنون بحق الإنسان في العيش الكريم، وحقه في مقاومة الاحتلال أن يأخذوا دورهم في الدفاع عن قضايا الأسرى الفلسطينيين، مثل: تطوير المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الثالثة لتشمل فئة المدنيين المقاومين للاحتلال كأسرى حرب، واستصدار فتوى من محكمة العدل الدولية لنصرة قضية الأسرى الفلسطينيين والعمل على وقف معاناتهم وإطلاق سراحهم. مع ضرورة إلزام اللجنة الدولية للصليب الأحمر للعمل على هذا الموضوع كونها إحدى الجهات الدولية المهمة التي تعمل على تطوير القانون الدولي الإنساني ونشره( ).
3) ندعو المجتمع المدني، بمكوناته كافة، والمؤسسات؛ الرسمية والشعبية، والأفراد والجماعات إلى خلق ثقافة وطنية، في جميع الاتجاهات والمستويات، بعقد المؤتمرات والندوات والورش والفعاليات الطلابية في المؤسسات التربوية؛ المدارس والجامعات، لتسليط الضوء على قضية الأسرى بأبعادها القانونية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. وفوق هذا كله يجب التذكير بأن للأسرى في أعناقنا واجب وطني وديني.
4) إن الواجب الوطني يفرض على أبناء شعبنا، وأحرار أمتنا، الوقوف بصلابة خلف أسرانا الذين يخوضون معركة صمود حقيقية في مواجهة "عقوق" المنظمات والهيئات الدولية الموالية للاحتلال وحكومته؛ التي تتعامى عن الظروف السيئة التي يعيشها أسرانا وتتنكر لمطالبهم العادلة، لتضاف إلى الظلم والجَوْر الواقع عليهم من قبل الاحتلال.
ولعل أوضح صرخة يمكن أن نطلقها في وجه هذا الواقع البائس؛ ما ورد في وصية الأسير المريض محمود أبو صالح، الذي أمضى في الأسر (12) عاماً، وأصبح يعاني من ورم مجهول في الحنجرة، وقد نشرت وصيته صحيفة القدس بتاريخ 12/7/2013، بعدما فقد الأمل من جانب جميع الجهات للإفراج عنه ليتلقى العلاجات الطبية العاجلة لإنقاذ حياته. ومما جاء في وصيته تلك: "... سنغادر هذه الحياة برغدها ونتركها للمسؤولين المقصرين"( ).
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 11/نيسان/2014م
عزيز العصا* نشر في القدس، بتاريخ: 17/4/2014م، ص20
إرسال تعليق Blogger Facebook