أنتج الثنائي-المناضل حافظ أبو عباية ومحمد البيروتي كتاباً يوثق لمرحلة عاشاها وعايشاها؛ مسرحها السجن بتفاصيله المؤلمة، وأبطالها الأسرى الفلسطينيون، وأما إسنادها الزمني فهو العام 1967.. مرحلة استشهد العديد من أبطالها، فجاء كتابهما بعنوان: "نصب تذكاري"؛ ليحمل على جدران صفحاته توثيقاً لسيرة ومسيرة، بما لها وبما عليها..
يتكون كتاب "نصب تذكاري"، وهو من إصدارات وزارة شئون الأسرى والمحررين للعام (2013)، من (216) صفحة من القطع المتوسط، تتوزع على (48) عنوانا، يحمل غلافه الأول لوحة بسيطة هي صورة (طبيعية) لزيتونة فلسطينية؛ يربض عند جذورها، الممتدة حتى فوق الأرض، نصب تذكاري لفلسطين بشهدائها، وأسراها، وجرحاها. وأمام هذا النصب ينتصب "حنظلة"-ناجي العلي؛ وهو الكاريكاتير الصبي ابن العاشرة من عمره الذي أدار ظهره للمرجفين والانتهازيين، وعقد يديه خلف ظهره منذ العام 1973؛ واتجه نحو الأمل وإشراقة الشمس التي تضيء الزمان والمكان.
لقد قمت بقراءة ما بين دفتي هذا الكتاب؛ للخروج بنتائج تضيء زماننا المهدد بالمصادرة، ومكاننا المهدد بالضياع. فوجدت فيه مجموعة محاور؛ يتوزع عليها المحتوى، هي:
أولاً: تتجلى قصص الحب والحرب: فلم يكن الأَسْر مانعاً لاستمرار الحياة، ولم يكن السجن هو حد القطيعة بين الفلسطينيين وحياتهم الطبيعية، بل كانت عيونهم ترنو، دائماً وأبداً، نحو الحرية والتحرر لإنشاء أسرٍ من نطفهم تجعل جمار الثورة متقدة إلى أن يعود الحق إلى نصابه؛ بأن تعود فلسطين إلى أهلها. فها هي الأسيرة المحررة "عطاف يوسف" تقترن بـ "خضر قطامي"، رغم علمها أن حياتها سوف تتبدل لتصبح زوجة وأماً ومناضلة وممرضة ثم أرملة؛ وأماً لأيتام، فكان لها ما توقعت؛ حيث استشهد زوجها "الأسير قطامي" بمرض السرطان. وها هو إسماعيل الدبج يتزوج شقيقة رفيق زنزانته "فازع حمدان".
ثانيا: بطولات وصمود: إذ يتضح من "نصب تذكاري"، الذي يحتل قمة هرمه الشهيد "عبد الكريم البرغوثي"، أن الأسرى لم يكونوا أناساً عاديين؛ بل هم أبطالٌ يرفضون الظلم والضيم، ويقاومون، بإرادة صلبة، سلب الأرض ونهب الحضارة والتاريخ والجغرافيا التي ورثوها عن الآباء والأجداد، فقد ردوا على النكسة بأن بدأت عملياتهم في العام 1967. وتوزعت تلك البطولات تحت عناوين متعددة، منها:
1) المجموعات المقاتلة التي كانت تتوجه إلى الأرض المحتلة، على شكل دوريات، ضمن مهمتين أساسيتين: الأولى؛ مهاجمة قوات الاحتلال حديثة العهد بالأراضي المحتلة، والثانية؛ تزويد الداخل بالسلاح والمعدات عبر قوافل الإمداد. وكانت تلك الدوريات على شكل مجموعات صغيرة العدد، وقليلة العتاد تواجه جيشا معززاً، وهي تدرك، تماماً، أن النتيجة "الحتمية" هي لأحد أمرين لا ثالث لهما؛ الشهادة أو الأسر. فها هو علي الجعفري ومجموعته يقاتلون لمدة يوم كامل ويوقعون قتلى في صفوف جيش الاحتلال على رأسهم رجل المهمات الصعبة؛ مما أجبر دايان/ وزير دفاع الاحتلال على مقابلة الجعفري والتحاور معه. ويوسف عبد الحق ورفاقه السبعة يقاتلون أكثر من (250) جندي مدججين بقوة آلية وبطائرات الهليوكبتر، في معركة الصيَر يقتلون تسعة جنود بينهم ثلاثة ضباط كبار.
2) تحدي الزنزانة ومواجهة السجان: فقد تميز الأسرى الفلسطينيون بقدرات فائقة في تحدي ظلمة الزنزانة وتحدي جبروت السجان، وتميزت المرحلة التي يغطيها الكتاب بأنها كانت مرحلة أسست للمراحل اللاحقة التي وقف فيها الأسرى ببطولة، وتفانٍ، في وجه قوانين السجن ووحشته، ومن تلك المشاهد:
1) الإضرابات التي شكلت (مدرسة) متفردة في مواجهة جبروت السجون؛ إذ تمكن الأسرى، بصدورهم العارية، وبأمعائهم الخاوية من إجبار السجان على الرضوخ لمطالبهم المشروعة. ولعل خير مثال على ذلك أن المرحوم "الأسير-أبو السكر" قد خاض (13) إضراباً عن الطعام طوال فترة أسره التي امتدت إلى (27) عاماً. تلك الإضرابات التي شارك فيها المرضى والعجزة، وكانت في معظم المرات تنتهي بشهداء، منهم: "علي الجعفري"، "راسم حلاوة"، "إسحق مراغة" و"أنيس دولة".
2) الصِّدام المباشر مع السّجانين؛ والذي يعني "هز" هالة السلطة الاحتلالية، وكسر حاجز الخوف من ممارساته. الأمر الذي تطلب شجاعة وجرأة في مواجهة القبضة الحديدية التي تفرضها سلطات السجن. وقد كان هناك ممارسات البطولية، يصعب حصرها، حتى أن الكتاب "قيد النقاش" قد أشار إلى العديد منها، مثل: "رمضان البطة" الذي كان يدفع نحو الصدام مع السّجّانين حتى حدوده القصوى، و"عدنان محمدية" يحمل السّجّان كما يحمل كيس القمامة دون خوف أو وَجَل؛ حتى أن لا أحد من السّجّانين كان يجرؤ على تفتيشه، وكذلك "مصطفى اخميس" و"عمر شلبي" اللذان كانا من أبرز من واجه قسوة السّجّانين.
ثالثاً: المرأة الفلسطينية؛ محرك المعركة ووقودها في آنٍ: إذ يستهل المؤلفان كتابهما بقصة "رقية عبد الرحيم محمود"؛ التي تبرعت من دمها لـِ" خضر حسن قطامي"، لتكون حافزاً له بالشفاء السريع والعودة السريعة إلى ساحات القتال. و"حليمة حسني سالم الرميلي" تُعتَقَل وتسام سوء العذاب، وزوجة الأسير-أبو السكر" تُدخِل له منشاراً داخل حذاء وعند اكتشافه اعتقلت لثمانية أشهر. وكذلك "خطيبة الأسير نصري سعد الله" التي تصر على انتظاره رغم أنه محكوم 45 عاماً، إلا أنها تتزوجه بعد (18) عاماً.
رابعاً: العمق العربي لم يغب عن المشهد: بحسب الكتاب؛ يبدو من خلال عدد من المشاهد والروايات أن هناك مشاركة "خجولة" من أبناء الأمتين العربية والإسلامية في الثورة الفلسطينية. أما على مستوى الأفراد؛ فقد ورد في الكتاب أن "أبو العروبة-العراقي" قد شارك أبناء فلسطين ثورتهم وكان يحضهم على الصمود معلناً أن المعركة مع السجانين لا تقل أثراً عن "ذي قار" وغيرها من معارك الأمة. وهناك إسماعيل الدبج و"موسى جمعة طلالقة" الأردنيان و"رخا" السعودي و"أحمد عبد السلام الفيتوري-الليبي" اللذين قاتلوا في صفوف الثورة وأُسِروا مع الفلسطينيين.
خامساً: الأسرى يعملون بتفانٍ وبروح المسؤولية: لم يصمد الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال إلا لما تمتعوا به من قدرة عالية على رباطة الجأش، وحسن السلوك والانضباط، رغم بعض الشوائب، هنا وهناك. وقد سجل الكتاب (قيد النقاش) العديد من المشاهد التي تشير إلى تلك الخصائص والسمات، مثل: عمر قاسم أرسل رسالة للمحررين يهنئهم بنيل حريتهم رغم حرمانه هو منها، ومما قاله: "قد لا تتاح لي فرصة إنجاب طفل يحمل اسمي من بعدي لكني أرى فيكم أبنائي البررة". كما لا ننسى أن صمود الأسرى وتفانيهم في تلك الحقبة أدى إلى إلغاء أداة "الزندا" المستخدمة لإطعام الأسرى المضربين بالقوة.
سادساً: سلاح العلم والثقافة والمعرفة حاضر في المعركة: تنبه المحتلون، منذ اللحظة الأولى، إلى خطورة الثقافة والعلم الذي يتمتع به الفلسطينيون؛ فدأبوا على عملية تجهيل الأسرى، وعزلهم عن محيطهم وعن شعبهم بل وعن العالم أيضاً، بهدف "إعدامهم" ثقافياً وبهدف إطفاء لهيب الثورة في نفوسهم؛ بحرمانهم التام من القلو والورقة لعدة سنوات امتدت حتى أوائل السبعينيات من القرن الماضي.
أما الأسرى، من جانبهم، فقد أبدعوا في البحث عن الطرق والوسائل والأساليب التي تكفل لهم إمكانية التعلم والتعليم، بما يكسر نظريات السّجّان. فمنذ بدايات السبعينيات فرضت التنظيمات الفلسطينية داخل المعتقلات نمطاً من التعليم الإلزامي للسجناء كافة، بما في ذلك التثقيف السياسي والوطني ومحو الأمية للأميين منهم. فكان لهم ذلك من خلال العديد من المشاهد والشواهد التي وردت في كتاب "نصب تذكاري" الذي نحن بصدد مناقشته، منها:
أ. هناك من قام بدور مصدر العلم والمعرفة والثقافة، مثل: "عمر قاسم"؛ الذي دخل المعتقل وهو مسلح بالوعي والإدراك والتجربة الفنية والثقافة العالية والسلوك التنظيمي والأخلاقي المتفوق، "إسماعيل الدبج" كاتب قصة (كان يقرأ بِنَهَمٍ حتى تعلم العبرية وأتقنها)، "محمد ابو لبن" كان أدبياً وشاعراً؛ يكتب الشعر الملتزم والمقاوم والمحفز حتى أنه قام بإصدار مجلة "النهضة"، و"مصطفى اخميس" الذي أصدر مجلة "ابن الخيمة" باستخدام ما تيسر من مواد تصلح الكتابة عليها كأغلفة الأغذية وعلب السجائر الفارغة وكل ما يسقط في يده، و"أبو صالح"؛ خريج الكُتّاب يبدو بغزارة علمه وثقافته كمن هو خريج دراسات عليا.
ب. بالمقابل؛ كان هناك من نهل من ذلك العلم ومن تلك المعرفة، حتى أضحى مفوهاً قادراً على أن يصبح هو نفسه معلماً لغيره، مثل: "عبد القادر حماد" ينهل العلم والمعرفة ممن هم اكبر منه سنا، محمد شقير ابن الـ (17) عاما يتعلم ويقرأ؛ ليكتسب خصائص قيادية متميزة ويتعلم أصول العمل السري فيعاود العمل بعد خروجه من السجن، "رخا"/ السعودي امتلك قدرات أدبية عالية فقد كان يقرض الشعر الموزون المقفّى الجميل، كما كان كاتبا مبدعاً.
سابعاً: فضائح الاحتلال وفظائعه بحق الأسرى: يتبين من هذا الكتاب أن الصراع الذي كان قائماً بين الأسرى وسجّانيهم كان صراع وجود وصراع هوية. وأن كلا الطرفين كان يرى في "الآخر" نقيضه الطبيعي. وعليه؛ فإن الاحتلال لم يألُ جهداً في إخراج الأسرى من معادلة الصراع على هذه الأرض؛ جسداً وروحاً وفكراً. الأمر الذي جعله يطلق العنان للسّجّانين لكي يتصرفوا وفق أهوائهم؛ بلا رادع. فقام (الاحتلال) ببناء منظومة اعتقالية، متكاملة من وسائل المعاملة بالغة القسوة؛ هدفها تعريض المعتقلين لأقسى أنواع العذاب المتواصل والإهانات والضغط النفسي.
ثامناً: إبداعات الأسرى ورؤاهم المتفائلة رغم القيد: لقد أشار كتاب "نصب تذكاري" إلى مجموعة من الظواهر التي تؤكد على صدق الانتماء، والتفاني في الدفاع عن رفاق الدرب؛ دون الالتفات إلى مغنم أو مكتسب، منها.
1. قام العديد من الأسرى بالتنازل عن الإسم الحقيقي واعتماد إسم جديد؛ حرصاً على الأمن الشخصي وأمن المجموع كالحاج "محمد عيسى عفانة" الذي أصبح إسمه "عثمان بن عفان".
2. ولن ننسى ذلك البطل "أبو نبهان" الذي قام بحرق الوثائق التي كانت بحوزته؛ حفاظاً على سرية العمل والمعلومات والبيانات، رغم أن الجيش يحاصره من كل جانب.
3. كما كان هناك برامج نضالية تهدف إلى ضبط تصرفات الأسرى ومراقبة علاقتهم مع السجانين؛ بهدف تعزيز روح المقاومة لديهم وحمايتهم من السقوط والانحراف. وكان "عمر قاسم" يقول: "حيث يوجد إنسان واحد فأنت تحمل مهمة العمل معه لينضم الى جيش الوطن".
4. تمكن الأسرى من بناء مؤسسة فاعلة شكلت نداً فعلياً لسلطات السجون وتركت أثراً واضحا على إدارة الصراع معها، وحماية المعتقلين الفلسطينيين من بطشها ومحاولاتهم لحرف الثوار عن ثورتهم. فها هو "أبو علي شاهين" يبدع في "التنظيم والعمل الجماعي" للمحافظة على تنظيم فتح.
5. من جانبٍ آخر؛ هناك العديد من المظاهر الدالة على سعي الأسرى الفلسطينيين، في تلك الحقبة، إلى إضفاء أجواء من الراحة ومقاومة حالات القلق والتوتر، بالأغنية الهادفة، والقصيدة الموجهة التي تعيد الأمل إلى النفوس؛ كقصائد "محمد أبو لبن" وراجح السلفيتي، وممارسة الرياضات المختلفة، كما هي حالة "عدنان محمدية" الذي كان لاعب شطرنج لا يضاهى، و "رخا" الذي كان مبدعا في هذه اللعبة. و"شداد عطوة" صاحب الاختراعات؛ يجمع أصابع معجون الأسنان المعدنية الفارغة ويقوم بعمليات تحويلية لها.
من جانبٍ آخر، ولضرورات الحفاظ على مهابة الموضوع قيد النقاش في هذا الكتاب؛ فإن هناك مجموعة من الملاحظات التي لا بد من توجيهها للمؤلفيْن، ولهما الخيار في الاستناد إليها في الطبعة القادمة للكتاب، منها:
أولاً: بدا الكتاب أقرب إلى المذكرات شخصية منه إلى التوثيق والتأريخ بأسلوب علمي. كما أنه لم يتم منحه رقم تصنيف، مما يُضعف إمكانية اعتماده من قبل الباحثين في شأن الأسرى الفلسطينيين. فقد احتوى الكتاب على شهادات هامة للغاية؛ تدعم الرواية الفلسطينية بشأن القمع الذي تعرضت له الثورة الفلسطينية، بشكل عام، والحركة الأسيرة بشكل خاص.
من جانبٍ آخر؛ شابَ الكتاب عدم الانتظام و/أو التتابع في السرد والتوثيق للأحداث، فلم تكن هناك صيغة موحدة في السرد؛ إذ كان لكل أسير طريقة صياغة تختلف عن غيره.
ثانياً: لم يتم توثيق موحد لجميع الأسرى، مثل: ظروف الأسْر، سنة الأسْر، الحُكْم، المدة التي قضاها الأسير في الأسْر وتاريخ الاستشهاد... الخ.
بعد قراءتي، المتأنية، لهذا الكتاب وجدت فيه وثيقة هامة تشير إلى أن أسرى تلك الحقبة الزمنية قد أسسوا لمرحلة هامة من حياة الشعب الفلسطيني، أكدت وجوده على أرضه "فلسطين"، وتضحيته دفاعاً عنها.
كما أن هناك ما يُلفت النظر من أن حوالي خُمس الوفيات للأسرى المذكورين في هذا الكتاب قد قضوا بمرض السرطان؛ الأمر الذي يتطلب إعادة مراجعة ملفات الأسرى الفلسطينيين لحصر أسباب الوفاة وتحليلها من قبل المختصين.
أما على المستوى الوطني؛ فإنني أرى بضرورة توجيه هذا الكتاب وغيره من الكتب المشابهة؛ ذات الصلة بتجارب أسرانا وسيرهم، إلى كل من لم يتجرع مرارة السجن كما عاشها هؤلاء، ولكل من "غطّ" في نومٍ عميقٍ حُرم منه الأسير؛ وهو يتلظى بنيران السِّجن والسّجّان، وحرم منه المقاتل؛ وهو يحمي تخوم وطنٍ مستباح، كما حرم منه الجريح الذي فقد طرفاً أو فقئت عينه وهو ينافح عن وطننا جميعاً و/أو تحت التعذيب؛ لكي يخفي سراً يخدم المسيرة..
لكل هؤلاء؛ فلنقف إجلالاً واحتراماً دون أن يرف لنا جفن، ونحن نقرأ سِيَر أبطالنا في ساحات الوغى..
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 24 نيسان، 2014م
قراءة: عزيز العصا/ نُشِرَ في القدس بتاريخ 4 أيار، 2014م، ص21
إرسال تعليق Blogger Facebook