0

لا شك في أن العدوان على غزة أثار العديد من الأسئلة والتساؤلات، على المستويات كافة، فلم يبق قلم قادرٌ على الكتابة إلا وأدلى بدلوه، أياً كان انتماءه القومي أو الديني أو الفكري أو العمري على مدى المعمورة. أما نحن، فإن هذه الحرب أجَّجت فينا وفي الأجيال القادمة نيران غضب لن تنطفئ إلا أن يقضي الله أمراً كان مفعولا؛ بعودة الحقوق إلى نصابها وإلى أهلها الشرعيين.
نظراً لأن هناك من شعبنا من (يُشْرِع) سلاح المحاكم الدولية كالجنايات (الدولية) وغيرها؛ كسلاح (ردع) باعتباره الوصفة السحرية التي توقف العدوان عند حدود معينة، أو أنها تضمن عدم تكراره، وما إلى ذلك من رؤى هناك من يروج لها، باعتبارها السلاح الاستراتيجي في معركة وجودنا على هذه الأرض. ونظراً لأنه على كل كاتبٍ أن يأتي بما هو (جديد) للقارئ؛ لكي تشكل الكتابات والمقالات المقروءة، في مجموعها، ينبوعاً "لا ينضب" من الثقافة والمعرفة، فقد وجدت أن هناك ضرورة للتوقف عند الحروب وأخلاقياتها، وبعض المفاهيم ذات الصلة بها.
فقد صدر عن سلسلة عالم المعرفة في يوليو/ تموز/ 2014، كتاب، ترجمة أ. د. عماد عواد، بعنوان: الأخلاقيات والحرب: هل يمكن أن تكون الحرب عادلة في القرن الـ (21)؟ لكاتبه "ديفيد فيشر". وقد حصل هذا الكتاب على جائزة دراسات الحروب في العام 2013. يتكون من (414) صفحة من القطع المتوسط، يتوزع عليها قسمان، هما: القسم الأول، بعنوان "الأخلاق" يتألف من سبعة فصول. والقسم الثاني، بعنوان "الحرب"، يتألف من خمسة فصول.
يجمع الكتاب بين الماضي والحاضر، وبين الخبرة العملية والمبادئ النظرية، كما يجمع بين الفلسفة المجردة والواقع التطبيقي. ويحاول الإجابة على السؤال الاستراتيجي المذكور، والذي يتصل به مجموعة هامة من الأسئلة، ذات الصلة، منها: هل تتغلب اعتبارات العدالة على اعتبارات القوة والحساب والمكاسب والخسارة القائمة بين الدول؟ وفي حالة الحروب غير العادلة، فهل الاقتصار على بيانات الشجب والاستنكار من قبل مجلس الأمن تكفي لمواجهة اعتداءات دولة عظمى أو من يدور في فلكها؟ ثم نجد أنفسنا أمام السؤال الذي لا بد من الإجابة عليه: هل يمكن أن تتحرر محكمة الجنايات الدولية من القيود التي تفرضها عليها موازين القوى، بما يجعلها قادرة على فتح تحقيقات جادة في انتهاكات قد يتورط فيها قادة دول كبرى، أم سيظل الأمر مقصوراً على قادة الدول النامية؟
يرى "فيشر" أن هناك ثلاثة تحديات تواجه تقليد الحرب العادلة، وبالتالي فهي التي تحدد مسارات الحروب في القرن الحادي والعشرين، وهي:
التحدي الأول: ينبع من الطريقة التي أضحت فيها مبادئ الحرب العادلة منفصلة عن سياقها (الديني أو العقائدي)؛ أي دون سند من سلطة (دينية) أو أي أساس فلسفي أو (ديني) أكثر اتساعاً.
التحدي الثاني: يتركز في كيفية ضمان انتشار الحرب العادلة، لتوفر مرجعاً لكل أولئك الذين ربما يكونون مشاركين في قرارات متصلة بالسلام والحرب.
التحدي الثالث: يتمثل في كيفية ضمان ألّا يكون السياسيون والجنود معتادون فقط على تعاليم الحرب العادلة، وإنما يتصرفون بالفعل بعدالة.
بهدف التعامل مع تلك التحديات المتشابكة لتقليد الحرب العادلة، عمل فيشر في القسم الأول من كتابه على تطوير إطار أخلاقي ضم مفاهيم نظرية من مدارس في علوم الأخلاق المتعلقة بالأفراد والجماعات والمجتمعات، والتي استقاها من نظريات صاغها فلاسفة ومفكرون عبر العصور.
أما بشأن العلاقات بين الدول، بصفة عامة، والعلاقات العسكرية، بصفة خاصة، فيرى "فيشر" أنها لا تحكمها الأخلاق ولكن تحكمها ما أسماه "السياسة الواقعية"، وهي: "سياسة تضع العظمة المادية والنجاح للأمة التي ينتمي إليها الفرد قبل أي اعتبارات أخرى". ويوجد لهذا المنطق الواقعي حول الحرب شكلان رئيسيان، هما:
أما الشكل الأول، فهو الواقعية المطلقة التي تتمسك بأن الاعتبارات الأخلاقية لا علاقة لها بكل اعتبارات الحرب؛ قبل اندلاعها، وفي أثنائها، وبعد انتهائها.
وأما الشكل الثاني، فيذهب إلى أنه على الرغم من أن الاعتبارات الأخلاقية قد تؤثر في قرار الدخول في حرب، فإنه بمجرد اتخاذ هذا القرار تصبح الأخلاق غير ذات صلة؛ حيث تحل محلها الضرورة العسكرية بمعنى ما هو ضروري لتحقيق النصر.
وقد قام "فيشر"، في فصل كامل، باستعراض الحروب التي شُنّت على منطقتنا، فركز على الحروب التي شنها الغرب على العراق، وتوصل إلى نتائج أفضت إلى أنها لم تكن حروباً عادلة، بقوله: "ننتقد الساسة لأنهم دفعوا بنا إلى حربٍ مع العراق من دون أن تكون هناك قضية عادلة". ولم يغادرنا "فيشر" قبل أن يؤكد في خاتمة كتابه أن تقليد الحرب العادلة، لا يمكن الاستغناء عنه لمواجهة التحديات الأمنية في القرن الحادي والعشرين.
هنا؛ لا بد من الإشارة إلى أن العرب والمسلمين، ومنذ ما قبل العصور الوسطى، قد تعاملوا مع الحروب، ليس وفق منهجية الحرب العادلة التي يتحدث عنها "فيشر" وحسب، وإنما بمعانٍ مشبعة بالقيم الإنسانية التي جاء بها دين الإسلام، ولعل في وصية "أبو بكرٍ الصديق" رضي الله عنه ما يفي بالغرض، حين أوصى جيش المسلمين المتوجه لقتال الأعداء، ومما قاله : "لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا أو شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نحلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له... الخ".
أما على أرض الواقع؛ فإننا شهدنا الحروب الثلاث التي شنها الكيان الصهيوني على غزة عبر العقد الأخير، آخرها الحرب الطاحنة التي دخلت شهرها الثاني، بتواصل هذه الأيام. وإذا ما أردنا إخضاعها لمعايير واختبارات الحرب العادلة، فإن نتيجتها ستكون رسوباً فاحشاً-فاضحاً للاحتلال وأعوانه ومريديه ومسانديه ومن دول، عظمى وصغرى، ومؤسسات وأفراد، لأن علاقاتهم بدولة الكيان الصهيوني لا تقوم على الأخلاق، ولا على مدى الالتزام بقواعد حقوق الإنسان؛ وإنما تقوم على مصالحهم التي لها الأولوية القصوى على حقوق الأطفال والمرأة وكبار السن، وعلى حقوق بني البشر في المأكل، والمشرب، والعبادة.
ليس مفاجئاً لنا أن يشن الكيان الصهيوني علينا حرباً غير عادلة (ظالمة)؛ فنحن، ومنذ أكثر من مئتي عام، في صراعنا مع الاستعمار الأوروبي والحركة الصهيونية التي أحضرها معه؛ لكي تكون رأس الحربة في (ديمومة) استعماره للمنطقة؛ بإخضاع جغرافيتها لخدمة مشاريعه الاقتصادية، ونهب ثرواتها، وتركيع أبنائها.
إذ بالعودة إلى التحديات التي تواجه (تطبيق) الحرب العادلة، نجد أن الكيان الصهيوني يخالفها جميعها، حتى أنها غير موجودة في قاموسه السياسي و/أو العسكري. ونظراً لاعتماد الحرب العادلة على (الدين والمعتقدات)، فيكفي أن نستشهد بما كان يردده الحاخام "عوفاديا يوسيف"، المتوفى مؤخراً، باعتبار "أقوال الحاخامات هي قول الله الحي، وأن الله يستشير الحاخامات عندما توجد معضلة لا يمكن حلها في السماء، وإذا خالف أحد اليهود أقوال الحاخامات يعاقب أشد العقاب، لأن الذي يخالف شريعة موسى خطيئته قد تغتفر، أما من يخالف التلمود فيعاقب بالقتل"( ). ومما استطعت جمعه من مقولاته( ) ( ) ( ):
• إن العرب "يجب ألا نرأف بهم, ولا بد من قصفهم بالصواريخ وإبادة هؤلاء الأشرار والملعونين". وليختفي كل هؤلاء الأشرار الذين يكرهون إسرائيل مثل الفلسطينيين عن وجه الأرض وليضربهم الطاعون. وأدعو الله أن "ينتقم من العرب ويبيد ذرّيتهم ويسحقهم ويخضعهم ويمحوهم عن وجه البسيطة".
• ثم ينصح أتباعه بالقول: "أكثروا من ذكر هذه الآية (من التوراة): "صب غضبك على الأغيار (غير اليهود)"؛ فهذه مناسبة جدا لأوضاعنا، لأن أعداءنا يحاولون القضاء علينا منذ خروجنا من مصر وحتى اليوم، من دون توقف".
• كما يوصي اليهود بالشدة مع العرب؛ "ممنوع الإشفاق عليهم، يجب قصفهم بالصواريخ بكثافة وإبادتهم، إنهم لشريرون".
بقراءة متمعنة لأقوال (التلمود) المذكورة أعلاه، وبالتوقف عند التسمية التوراتية للحرب على غزة "الجرف الصامد" ، وبالعودة إلى التحديات التي يطرحها "فيشر" وإلى شكلي المنطق الواقعي حول الحرب، نجد أن "إسرائيل" التي تشن حروبها في المنطقة، لا ينحصر خطرها على الشعب الفلسطيني فحسب، وإنما تشكل خطراً حقيقياً على الأمن والسلام في القرن الحادي والعشرين؛ لأن وجودها غير عادلٍ، ولأن دعمها (المطلق) من قبل الغرب والشرق غير عادل، ولأن مؤيديها ومريديها من الإقليم هم خونة لذواتهم ولأمتهم ولشعوبهم ليسوا عادلين.. وبالتالي فإن حروبها ليست عادلة وإنما هي حروب باطلة، استناداً للقاعدة الفقهية التي تقول: ما بُني على باطل فهو باطل.
بناءً عليه؛ فليس غريباً ولا مستهجناً أن تكون نتائج الحرب على غزة، هذه الأيام، استشهاد حوالى ألفي فلسطيني مدني وجرح أكثر من (10,000) (والقادم أعظم) ربعهم من الأطفال، بين جنين في أحشاء أمه، ورضيع، ولاهٍ بلعبته التي لم يفرح بها بعد، وقضى أكثر من (60) أسرة بكاملها؛ من الجد حتى الحفيد، وتشرد مئات الآلاف، ودُمِّرَ أكثر من (10,000) منزل (تشرّد أهلها)، و(13) مستشفى و(188) مدرسة و(6) جامعات، بالإضافة إلى المقابر (الإسلامية والمسيحية) والمساجد والكنائس ومكاتب البريد وقوارب الصيد والمزارع وحظائر الحيوانات... الخ. وهناك الكثير الكثير مما لم يذكر.
إن هذه النتائج، المأساوية، قد جاءت نتيجة طبيعية لحرب غير عادلة، شنتها دولة غير عادلة، مدعومة من أمم غير عادلة، وتصمت عنها محكمة الجنايات الدولية، غير العادلة؛ فهي مصممة لمحاكمة الضعفاء وصغار القوم.
وعليه؛ فإنني، ومن منطلق فهمي الدقيق لما جاء في هذا الكتاب، أتوجه إلى سياسيينا بأن يوقفوا (العزف) على نغمة المحاكم والمؤسسات الدولية، باعتبارها أسلوب مواجهة لحرب "إسرائيل" على شعبنا، ولكن بإمكانهم (اللعب) بها كأوراقٍ قد تشبع (الفراغ) السياسي الذي نحياه منذ أوسلو وحتى ما قبل شهر من الآن. لأن الحقيقة التي يؤكدها "ديفيد فيشر" هي أن تلك المؤسسات تُساسُ من قبل دول وأفراد لهم مصالح مع الصهيونية العالمية لا يمكنهم التضحية بها حتى لو أبيد الشعب الفلسطيني والأمة العربية جمعاء دفعة واحدة.
أما بخصوص القرن الحادي والعشرين، فإنني أقول لـ "ديفيد فيشر" الذي توفي في شباط/ 2014، أن العالم لن يهنأ بالعدالة طالما يسوسه هؤلاء القادة الذين لا يرعوا في أحدٍ إلّاً ولا ذمة.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 10 آب، 2014م
نشر في القدس، بتاريخ: 18/8/2014، ص17

إرسال تعليق Blogger

 
Top