لا شك في أن مناسباتنا الوطنية منحوتة في صخر هذا الوطن العصي على الهزيمة. بهذه العبارة المتفائلة، والتي أؤمن بها أردت أن أبدأ مقالي هذا. ولكن هذا لا يعني، بأي شكل، التغاضي و/أو التعامي عن حقيقة واقعنا المعاش على المستويات؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ففي كل تلك التفاصيل لا تجد ما يسر البال ولا يريح الخاطر، ما عدا المؤشرات الدالة على إرادة هذا الشعب وإصراره على أن "يعض" على ثوابته بالنواجذ.
وأما مناسبتنا الوطنية، التي نحن بصددها هذه الأيام، فهي: "يوم الأسير الفلسطيني". ولا أعتقد بأنني أجافي الحقيقة إذا ما اقترحت أن يُطلق عليها "أم المناسبات"؛ فلكل أسيرٍ من أسرانا البواسل قصة ترتبط بواحدة أو أكثر من تلك المناسبات. وقد حظيت قضايا الأسرى بإجماعٍ الشعب الفلسطيني، بما يشبه القدسية، التي لا تقل عن إجماعه على الثوابت الأخرى المتعلقة بالعودة والدولة على أرض الآباء والأجداد.
فتشير بيانات مركز الإحصاء الفلسطيني إلى أن عدد الأسرى (5000) بينهم (12) أسيرة و(235) طفلاً. حتى أن الاحتلال ينقل تلك الظروف والعوامل القهرية من جيلٍ إلى جيلٍ؛ فيقوم باعتقال (700) طفل فلسطيني سنويا (أرشيف وزارة شئون الأسرى، التقرير رقم: 1016).
جميع هؤلاء حُرموا من حرية العيش مع أسرهم لأن الاحتلال يرى فيهم الوقود؛ الذي يغذي ثورة الشعب العارمة في وجه غطرسة هذا الاحتلال الغاشم، وعنجهيته، وجبروته الذي طال الأرض الفلسطينية، وامتدت لتطال أراضي الجوار العربي، بما عليها من بشر وشجر وحجر؛ وذلك بمنع أصحابها الذين ورثوها كابراً عن كابرٍ من إعمارها والتمتع بخيراتها، فنشر استيطانه الهمجي الذي ابتلعها وجعل السكان، أصحاب الأرض الشرعيين، يعيشون في ظروف بيئية تهدد مستقبل الأجيال القادمة، وفي ظروف نفسية سيئة؛ من الخوف والقلق وعدم القدرة على ممارستهم لحياتهم اليومية العادية.
أما الظروف التي يعيشها الأسرى أنفسهم فإنها لم تتوقف عند حجز الحرية، والحرمان من ممارسة حياتهم على أرضهم بين أسرهم وذويهم، بل تعدى ذلك بكثير بأن يُحرم الأسرى المرضى، يزيد عددهم عن (300)، من تلقي العلاجات اللازمة كما يجب أن تكون.
وفي السنوات الأخيرة تزايدت نسبة الأمراض الخبيثة، معظمها تم اكتشافها في وقت متأخر بعد أن تكون قد انتشرت بشكل كبير في أجساد الأسرى، وقد وصل عددها حتى اللحظة (25) حالة سرطانية. ويأتي ذلك نتيجة سياسة الإهمال الطبي، وقلة العلاج، والظروف غير الصحية لأماكن الاحتجاز، وتواصل سياسة القهر النفسي بحق الأسرى (انظر: أرشيف وزارة شئون الأسرى، التقرير رقم: 1028).
أمام صمت العالَم، ومنظماته الحقوقية، الذي يتغاضى عما يُمارَس بحق أسرانا، بل و"شرعنة" ما يقوم به الاحتلال، وأمام إنهاك العمق العربي والإسلامي بهمومه الذاتية وحروبه الداخلية، وجد الشعب الفلسطيني نفسه منفرداً في معركته لتحرير أسراه، فكانت الصفقات المختلفة، آخرها صفقة "وفاء الأحرار"، عبر تاريخ الحركة الأسيرة، التي أدت إلى تحرير الآلاف من أسرانا البواسل وفك قيودهم رغماً عن المحتل. كما أشارت صحافة الاحتلال إلى أن فصائل المقاومة تسعى، بشكل دائم، من أجل خطف جنود الاحتلال كي يتم مبادلتهم مع الأسرى الذين يعانون ظروفا صعبة في سجون الاحتلال (شبكة فلسطين الإخبارية، بتاريخ: 12/4/2013م، المقال رقم: 50712).
كما وجد الأسرى أنفسهم في مواجهة مباشرة مع ظلمات السجن وشراسة السجان الذي يستخدم ضدهم قوته المفرطة. فوقفوا بصلابة منقطعة النظير، باستخدام سلاح يعجز الاحتلال عن مواجهته؛ إنه سلاح الأمعاء الخاوية التي ترفض الظلم والضيم. وها نحن أمام أكثر من (25) أسيراً يخوضون هذه المعركة، بقوة واقتدار، على رأسهم الأسير البطل "سامر العيساوي" المضرب عن الطعام منذ تسعة أشهر، حتى تاريخه.
وإذا ما علمنا بأن أسرانا هم من جميع الأعمار، ومن جميع الشرائح الاجتماعية، ومن الجنسين، وأنهم يتوزعون على الجغرافيا الفلسطينية؛ من البحر إلى النهر، وما يضاف إليهم من أسرى عرب شاركونا ظلمة السجن، وحفروا على جدران الزنازين أن فلسطين حية في نفوس أحرار الأمة.. فإننا نتوصل إلى نتيجة مفادها أن كل بيت في فلسطين يكتوي بنيران السجن، ويستشعر شراسة السجان وغطرسته وجبروته. وإذا ما علمنا بأن الحرمان من الحرية، ولو لساعة من الزمن، هو انتهاك لحق الإنسان في الحياة الحرة الكريمة، فإننا سوف نعلم ماذا يعني أن يُحكم على المرء بهذا الحرمان لمئات السنين؛ أي أن جثمانه يُحرم من نيل الحرية، وهؤلاء هم أصحاب المؤبدات من أبطالنا الأسرى.
يشكل أسرى المؤبدات نموذجاً حياً للصمود والتفاني في الدفاع عن الوطن؛ لأن لكلٍّ منهم قصة عنوانها فلسطين الأرض والشعب والحرية والكرامة.. ولذلك أوغل الاحتلال فيهم أحكاماً تمنعهم من البقاء أحياء يرزقون وهم ينعمون بالحرية.
لذلك؛ فلنتوقف أمام هؤلاء الأبطال الصناديد ونحن نعتذر عن تقصيرنا بحقهم وبحق أسرهم التي حُرمت خيمة الزوج والأب والإبن والشقيق.
وقد اردت، في هذا المقام، وبمناسبة "يوم الأسير الفلسطيني" أن أتوقف أمام جزئية تتعلق بـ "أسرى المؤبدات" وهي موضوع "إسكان ضاحية الأمل" الخاص بهم. ولهذا المشروع المفعم بالأمل قصة تتلخص بفكرة انبثقت من معاناة "الحاجة نجلاء الحاج"/ رئيسة جمعية أمان الخيرية في بيت لحم، وهي زوجة الاسير زاهر مقداد، المحكوم بالسجن واحدا وعشرين مؤبداً و(15) عاماً. حيث أنها لم تجد منزلا يؤويها هي وإبنها بعد أَسْرِ زوجها في انتفاضة الاقصى. ولم تتوقف الفكرة عند هذا الحد؛ بل تشكلت "لجنة أسرى المؤبدات" على رأسها الأسير المحرر "إبراهيم الزير" الذي خرج بعد (22) عاماً من الأسر، ليجد نفسه بلا بيتٍ يأويه، وليتلظى بنيران التشرد وعدم الاستقرار.
بتضامن أهالي الأسرى وذويهم، وبمشاركة من أسرى اكتووا بلهيب السجن سنين طويلة، وبسبب عدم توفر "أراضي حكومية تفي بالغرض"، وبعد جهود مضنية، لا يتسع المجال للخوض في تفاصيلها، انبثق الشعاع الأول لهذا المشروع بشراء قطعة أرض عبارة عن (11) دونماً زادها صاحب الأرض بـ "دونم واحد" تبرعاً منه، فأصبح لديهم (12) دونماً في بلدة العبيدية التي كان لها شرف احتضان هذا الإسكان-الحلم، المصمم لتوفير سكن كريم لـ (73) أسيراً من أسرى المؤبدات. ونظراً لعدم توفر متبرع، وبالرغم من ضيق اليد، إلا أن أهالي الأسرى تقاسموا ثمن الأرض، الذي لم يكتمل بعد بسبب استحالة تمكن عدد من الأسر تغطية نصيبها.
صحيحٌ أن وزارات شئون الأسرى والمحررين والحكم المحلي والأشغال بذلت جهوداً جادة بالقدر المتعلق بتخصص كل منها، إلا أن مشروع "إسكان الأمل" ينتظر شعاع الأمل المنطلق من دولة فلسطين ممثلة بمكتب الرئيس ووزارة شئون الأسرى، ومن فاعلي الخير من أبناء شعبنا وأمتنا..
فالمشروع، وإن خطا خطواته الأولى، فإنه لم ينطلق بعد؛ فكيف يمكن بناء إسكان يتكون من (73) شقة سكنية ومرافقها المختلفة، دون أن تُضخ ملايين الدولارات بشكل فعلي لتغطية نفقاته؟ وهل يكفي الإعلان عن صناديق، على الورق، لهذا المشروع وهي خاوية دون رصيد؟
إلى أن يُجاب على هذه الأسئلة/ التساؤلات وغيرها؛ نتوجه إلى صانعي القرار على مستوى دولة فلسطين، بنداءٍ من أعماق أسرانا البواسل الذين يخوضون حرب الحرية والكرامة، ومن أعماق زوجاتهم وأطفالهم وأمهاتهم، لتبني هذا المشروع-الأمل- على مستوى الدولة؛ بوزاراتها ومؤسساتها. كما نتوجه إلى الميسورين من أبناء شعبنا وأمتنا بمد يد العون والإسناد لأسرانا البواسل. ولقادة أمتنا نقول: إن أسرانا يعتصرون ألماً من كثرة الصناديق "الفارغة" التي يعلن عنها في مؤتمرات قممكم؛ لينتقل الإعلان من قمة إلى أخرى، حتى أن رماد تلك الصناديق يعمي العيون التي تترقبها..
وإلى أن يُشرع بتنفيذ هذا المشروع-الخيّر، نقول: من لم يذُق مرارة السجن فعليه أن يسهم فيما يضئ ظلمة الزنازين، وفي فكٍّ القيد لتحرير أسرى الحرية.. فأسرانا قدموا الكثير، ولا زالوا يقدمون أكثر الكثير بما يملكون من إرادة التحدي.. وعليه؛ لنتوقف عند يوم الأسير الفلسطيني لنجعل منه مناسبة وطنية، بل إنسانية، بكل المعايير، باعتباره صرخة مدوية للدفاع عن أسرى الحرية في مواجهة احتلال ليس له إلٌّ ولا ذمة. ولنتوقف عن انتظار المطلوب من أسرانا البواسل دون أن نقدم المطلوب لهم ولأسرهم التي تتلظى بنيران غياب الأحبة عن الديار..
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 14/نيسان/2013م
عزيز العصا/ نُشِرَ في القدس، بتاريخ: 16 نيسان، 2013م، ص19
إرسال تعليق Blogger Facebook