ونحن في أجواء ذكرى النكبة لا بد من استذكار تلك اللحظات المؤلمة، فيقول وليد الخالدي في كتابه "قبل الشتات، ص313": "في 14 أيار/ 1948 غادر المندوب السامي البريطاني مقره الرسمي في القدس متجهاً إلى بلاده. وظهرت الدولة الجديدة (اسرائيل) إلى الوجود بعد منتصف الليل بدقيقة واحدة بتوقيت فلسطين، وجاء اعتراف الرئيس (الأمريكي) ترومان بعد ذلك بعشر دقائق. وبذا؛ تكون قد غُرست بذور الشتات الفلسطيني والصراع العربي-الصهيوني".
لقد أوردت هذا النص ليس لمجرد ذكريات نقوم باجترارها، وإنما للإشارة إلى من غرس بذور الشتات الفلسطيني، ومن غذى الدولة التي قامت على أرض فلسطين التاريخية، كما أردت الإشارة إلى طبيعة ومنحى الصراع القائم على هذه الأرض منذ تلك اللحظة التي "اقتلع" فيها ثمانماية ألف فلسطيني من ديارهم؛ وألقي بهم، حفاة عراة، على أشواك التشرد والاغتراب وضياع الهوية. أما الأراضي التي أقيمت عليها الدولة الجديدة فهي حوالى 78% من أرض فلسطين الانتدابية (التاريخية).
لكي لا نغرق في الأحزان والآلام؛ فإنه من الضرورة بمكان التوقف، ملياً، عند ما يجري على الأرض. ففي العام 1967 لاحقت اسرائيل ما تبقى من فلسطين فاحتلته؛ لتقيم عليه مئات المستعمرات؛ غالبيتها تشكل أحزمة "تُطْبِق" على المدن الفلسطينية في الضفة الغربية (بما فيها القدس). وأن هذه المستعمرات منتشرة أفقياً، ولكل منها ما يسمى (زوم أمني)؛ أي عمق جغرافي للمحافظة على (أمن!!) المستعمرة، وما يلتحق به من شوراع (استيطانية) وأراضي زراعية خاصة بكل مستعمرة.
أضف إلى ذلك أن حوالي ثلثي المحتل منذ العام 1967 هو مناطق (ج) (بما فيه المحمية الطبيعية) التي هي تحت السيطرة الكاملة الاسرائيلية، لتبقى النتيجة النهائية تتمثل في أن المساحة التي يمكننا إقامة دولتنا عليها، حتى وفق الشروط الاسرائيلية القائمة على تبادل الأراضي (لضم الكتل الاستيطانية)، لن تتعدى الـ 8% من مساحة فلسطين الانتدابية (التاريخية) (انظر موقع المصدر بتاريخ: 6 شباط، 2014).
لأن الوقت والمساحة المخصصة لهذا المقال لا تتسع للدخول في التفاصيل الخاصة بالاستيطان، فقد اخترت الحلقة الأقوى، بل الحلقة الأخطر، في الصراع القائم على هذه الأرض؛ ألا وهو الأغوار؛ التي تسعى اسرائيل إلى السيطرة التامة عليها، باعتبارها تشكل عمقها الاستراتيجي، في مواجهة أي حرب إقليمية قادمة!!
إن من يتابع موضوع الأغوار يصاب بصداعٍ من نصفين: النصف الأول يتعلق بأراضينا التي تُقضم، يوماً بعد يوم، والتي إن بقي حالنا هكذا ستضيع إلى غير رجعة، وأما النصف الآخر من الصداع فمصدره مجموعة (الأكاذيب) المتعلقة بالعمق الاستراتيجي الذي تدعي به إسرائيل، باعتبار أن الأغوار ستحميها من الصواريخ البعيدة المدى و/أو العابرة للقارات!!
في جميع الأحوال؛ إن في الأغوار أسراراً لا بد لشعبنا من الاطلاع عليها وفهمها؛ لكي لا تبقى في (جوارير) السياسيين والمفكرين والمحللين، منها:
أولاً: على المستوى الجغرافي: يُقصد بالأغوار، بحسب خطة ألون عام 1968، ذلك الشريط الشرقي للضفة الغربية (يشكل 28% من مساحتها)، الذي احتل عام 1967، والذي يمتد على طول 120 كم، وبعرض 5-25 كم (من عين جدي جنوباً إلى بيسان شمالاً، علماً بأن الـ 25 كم هي عرض أريحا) (انظر: تقرير بحثي/ د. فادي نحاس. إسرائيل والأغوار (2012)، ص13) .
ثانياً: على المستوى الديموغرافي: حتى العام 1967؛ كان عدد السكان الفلسطينيين في هذه الجغرافيا حوالى (320) ألف نسمة. أما الآن؛ فإن عددهم 70 ألفاً فقط لا غير؛ ويعود ذلك إلى ما قام به الاحتلال من إجراءات، منها: الاستيلاء على الأراضي، منع التطور والبناء في الأغوار بحجة تصنيفها مناطق (ج). أما المستوطنين البالغ عددهم حوالى (7500) مستوطن، فيتوزعون على (28) مستوطنة تم تبرير إنشائها لأسباب أمنية (انظر: نحاس، ص: 14-19).
ثالثاً: على المستوى الاستراتيجي: يبين التراجع الحاد في عدد الفلسطينيين في الأغوار، والتوسع الاستيطاني فيها، مدى الهجمة الشرسة التي تتعرض لها الأغوار من جانب الاحتلال، ويرافق ذلك، بل ويعززه، أن الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة تنثر أمام جمهورها عوامل الرعب القادمة من الشرق والتي، من وجهة نظرهم، لا ينقذ (كيانهم) منها إلا من خلال هذا الإطار، باعتباره العمق الاستراتيجي القادر على صد تلك الهجمات!! وفي هذا الصدد يقول أمير أورن في مقال له بعنوان: غور الأردن أم السلام؟!، (صحيفة القدس، 21/12/2013، ص16): في ضوء الإنشاء المتوقع لدولة فلسطينية عاد ليُطرح على جدول الأعمال، مستقبل (الغور) من أجل الدفاع عن اسرائيل، في الوقت الذي (ألغمت) اسرائيل المنطقة بلوبي قوي يعارض إخلاء (الغور)؛ بحجة أن الاستيطان الدائم يعزز الأمن إلى جانب وحدات عسكرية.
رابعاً: الحقائق من وجهة نظر كتاب (العبرية):
من جانبٍ آخر؛ فقد نفى "مجلس السلام والأمن" في اسرائيل، بشكل لا لبس فيه، أن يكون بقاء السيطرة الإسرائيلية في الغور أو أية منطقة أخرى في الضفة الغربية سيساهم (بأي حال من الأحوال) في تعزيز أو تحسين أمن إسرائيل. ويمكن القول بأن غور الأردن وغرب الضفة ليسا على أي صلة بالواقع كرد على كلا التهديدين الأساسيين الجديدين. ومدى الصواريخ والقذائف الصاروخية يسمح بتغطية كل مساحة دولة إسرائيل بتهديد صاروخي مكثف من دون الحاجة إلى نشر منصة إطلاق صواريخ واحدة في المنطقة الواقعة إلى الغرب من نهر الأردن (انظر: التقرير الخاص الصادر عن مدار، بتاريخ 14/11/2013م).
كما أن أفيعاد كلاينبرغ/ يديعوت أحرونوت في مقال له بعنوان: دونم بعد دونم لتنفيذ مآرب المستوطنين (صحيفة القدس، 17/4/2014، ص16) يؤكد لنا أن معضلتنا لا تقتصر على السياسيين والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بل أن الجيش والقضاء والقانون، كذلك، يلعبون أدواراً متعددة الأبعاد: قانونياً-قضائياً-أمنيا-سياسياً-استيطانياً؛ وفي ذلك يقول " كلاينبرغ": "لقد ضم الجيش الاسرائيلي، منذ الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، نحواً من مليون دونم من الأرض الفلسطينية، ومنذ أن تصبح هذه الأراضي أرضي دولة تصبح يهودية؛ لأن دولة الاحتلال الاسرائيلية مخصصة لليهود". ثم يستعرض " كلاينبرغ" مجموعة من الأمثلة التي تدل على الجيش، والقضاء، والقانون في إسرائيل، تعامل مع ضم الأراضي الفلسطينية ومصادرتها من أصحابها الشرعيين بـ "قبوله الدعاوى الأكثر اندحاضاً التي تؤيد سلب الأرض" حتى أنه تطور في إسرائيل ما أسماه " كلاينبرغ" "صناعة كاملة من اللاقانون الذي يظهر بمظهر القانون".
بقي أن نذكر بما يقوله (نحاس، ص23)، من أن مستوطنات الأغوار هي الأكثر حصولاً على الدعم، من تلك المقامة على أراضي الضفة الغربية؛ ويهدف ذلك إلى الإبقاء على السيطرة على الأغوار الذي يرتبط بمصالح مركزية (اسرائيلية) عديدة، منها:
1) السيطرة على مصادر المياه في الأحواض الجوفية، بهدف التحكم بكمية المياه الفلسطينية (وفق اتفاقية أوسلو) التي تراجعت حوالى 40% مقارنة ما بعد اتفاقية أوسلو. مما يعني الحد من تطوير الانتاج الزراعي والاقتصادي الفلسطيني.
2) تحويل مستوطنات الأغوار إلى مستوطنات صناعية ومناطق زراعية مرتبطة بالصناعة، مع إنشاء ما يسمى بالصناعات العلاجية عند البحر الميت.
3) مستوطنات الأغوار ستتمكن من السيطرة على الدولة الفلسطينية، وتشكل حاجزاً جغرافياً بينها وبين الأردن.
4) قامت إسرائيل بإنشاء شارع "عابر السامرة"؛ الذي يربط كتل الأغوار الاستيطانية بمطار بن غوريون؛ لتسهيل تصدير بضائعهم إلى الأسواق الدولية، الأمر الذي يشكل انتهاكاً للقانون الدولي.
والحالة هذه؛ وفي ظل الضعف الشديد للعمق العربي والإسلامي (لحد ما يشبه تلاشي)، وفي ظل ضعف تأثير المنظمات الحقوقية الدولية (الأوروبية وغير الأوروبية)، وفي ظل الانحياز (التام والقطعي) من قبل أمريكا لإسرائيل، فإنه لم يبق أمام الفلسطينيين التحرك لدى منظمات الأمم المتحدة، التي أصبحنا عضواً مراقباً فيها، لوضع حد لحالة الاستنزاف، المتسارع واليومي، الذي تعاني منه الأراضي الفلسطينية بشكل عام، والأغوار بشك خاص. كما أصبح من الضرورة استكمال المصالحة الوطنية؛ وتعميق الوحدة والتلاحم بين فئات شعبنا وشرائحه؛ لتطوير مقاومة الاحتلال، والتحرك، على المستوى الوطني؛ رسمياً وشعبياً، من أجل إعادة مراجعة اتفاقية أوسلو التي أصبحت سيفاً مسلطاً على رقابنا؛ بأن يتم توظيفها، بشكل كامل، لصالح الاحتلال ومخططاته الرامية إلى تمزيق الأراضي الفلسطينية بما يجعل "النكبة" مستمرة وتتكرر ملامحها يوماً بيوم، وتنتقل من جيلٍ إلى جيلٍ.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 12/05/2014م
عزيز العصا/ نشر في القدس، بتاريخ: 16/05/2014م، ص17
إرسال تعليق Blogger Facebook