شهداء الجوع

قُدِّرَ لي أن أبيت في فندق الجراند بارك يوم الجمعة بتاريخ 13/11/2009م، حيث انهمكنا بالبحث في كيفية تطوير الاتحاد العام الفلسطيني للجمعيات الخيرية-القدس، بما يمكنه من الإسهام في توفير السبل الكفيلة بحفظ كرامة الفقراء والمعوزين من أبناء شعبنا. وعندما فتحت باب الغرفة صبيحة اليوم التالي لكي اسلم على جاري د.عبد الله صبري رئيس اتحاد الجمعيات الخيرية/ القدس، استلمت صحيفة كانت معلقة على الباب.. ففهمت من ذلك أن واحدا من برامج ذلك الفندق الوطني الريادي الرائع هو الإسهام في رفع مستوى ثقافة نزلائه، وجعلهم على تواصل مع العالم, الى جانب توفير التلفزيون الذي يعج بالفضائيات التي تتحدث عن العقيدة وعن الأزياء وعن الأفلام، من جميع الأهواء والمدارس الفكرية، وعن مظاهر السلم ومظاهر الحرب.

ليس هذا هو المهم.. بل الأهم هو ما ورد في أقصى يسار ذيل الصفحة الأولى من صحيفة ذلك اليوم، بعنوان يعلو صورة لنسوة من مختلف الأعمار يغرقن بدموع الحزن والأسى، وهن يتكئن على حائط، يبدو أنه نجا بأعجوبة من الرصاص المصبوب، ليشهد على بكاء وعويل تلك النسوة اللاتي ظهر عليهن الجزع والإحباط. أما العنوان فهو: "قوات الاحتلال تقتل فتى وتصيب اثنين كانوا يصطادون العصافير قرب مخيم البريج".

لكي لا نقع في باب التأويل والتفسير والتنقيب عن الحقيقة فإن الصورة الملتصقة بالعنوان، وما أورده لنا مراسل الصحيفة من زبدة الخبر تفيد ان طفلا اسمه "مصطفى وادي" قضى شهيدا على تراب غزة المكلومة بالفرقة والتشذرم, والتي دفعت غالياً ثمن "شيزوفرينيا" الـ "أنا". ولم تكن دماء مصطفى وحدها بل إن شقيقين من آل سعدون هما احمد ومحمد قد نزفا من دمائهما ما يكفي لان يطمس ما حُفِرَ في أدمغتنا من مبررات تفتيت الوطن الحزين وبعثرته بين أقدام المتصارعين على الحكم.

واذا ما أخضعت هذا الخبر للتحليل والتمحيص والتدقيق، وطبقت عليه الاحصاء الوصفي او غير الوصفي.. واذا ما نظرت إليه من منظور البحث الكمي و/أو الكيفي أو نقبت في نظريات علم الاجتماع لتتعرف على ما وراء الخبر فانك تقف أمام الحقائق التالية:

1. أعمار الأطفال الثلاثة لا تزيد عن 15 عاما ولا تقل عن 14، وهذا يدلل على أن الاحتلال الذي يعاني من عقدة الخوف من كل ساكنٍ أو متحركٍ على هذه الأرض، حتى حفيف الأشجار وهدير المياه، قد حرك اسلحته الثقيلة لتتمكن من ثلاثة أطفال. وكما عودنا الاحتلال دائما فان من يحرق الاقصى أو يمس بقدسية القيامة يُنعتُ بالجنون، أما الأطفال الفلسطينيين الذين يلعبون في فناء بيتهم فهم يهددون الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وهذا النوع من الأطفال هم, من وجهة نظر الاحتلال, مدججون بعبوات ناسفة.

2. أما الحقيقة فان الأطفال غادروا بيوتهم منذ الصباح الباكر من يوم عطلتهم الأسبوعية، التي خصصت لينعموا بالراحة بعد عناء أسبوع بأكمله، وهم مدججون بأنواع شتى من المواد والأدوات الكافية لاصطياد مجموعة من العصافير ليحتفلوا بغداء فيه شئ من البروتينات التي ينتظرها أفراد أسرهم منذ زمن ما قبل الحصار وبعده. فهم أبناءٌ لآباءٍ وأمهات غير قادرين على عبور الأنفاق ليحضروا طعاماً يسد الرمق، وغير قادرين على إقناع المحتلين بحجم الظلم الواقع على الأطفال الرضع والشيوخ الركع.

3. أما التفاصيل الأكثر إيلاماً فهي تلك التي تفيد بأن مسرح العمليات هو مكب نفايات في جحر الديك، بالقرب من قرية وادي غزة، يرتاده الأطفال الذين يتضورون جوعاً للتنقيب في تفاصيل التفاصيل لينتهي الأمر بهم إلى أن النفايات في غزة تخضع لقاعدة حفظ المادة التي تقول بأن المادة لا تفنى ولا تُخلق من العدم، فكيف يكون في النفايات ما يُنقب عنه والبيوت تفتقر لكل شئ، ولكنها نظرية الغريق الذي يرى نجاته في القشة، هي التي تبعث الأمل في النفوس.

النتيجة النهائية: توغل احتلالي، وما رافقه من إطلاق نار وترويع للسكان في القرية التي شهدت على الحدث-المأساة.. مصطفى يُوارى الثرى وسط صمت رهيب يشقه نحيب الأم والشقيقات والعمات والخالات وقهر الأب الذي تجمدت دموعه منذ النكبة التي جاءت بجيران يمنعون الصيد ويحاربون مظاهر الطفولة كافةً.. الشقيقان أحمد ومحمد السعدون يتحولان، فجأة وبقدرة قادرٍ، من صيادَيْ عصافير إلى مقاتِلَيْنِ شَرِسَيْنِ وزارِعَي عبوات يتم تحريك جحافل ضخمة من القوات لاعتقالهما والهروب بهما إلى عمق اسرائيل للتحقيق معهما عن أسباب الجوع والعوز الذي وصل إليه أبناء غزة!!

الاستنتاجات التي لا يمكن تجاوزها، تدور حول أن أطفال غزة يدفعون الثمن في السلم وفي الحرب، فالمنطقة التي شهدت الحدث المذكور تمتاز بالهدوء وهي تخضع لتهدئة، غير معلنة، منذ زمن. والأطفال هم صيادون، ليسوا مهرةٍ، خرجوا ليشهروا "مقاليعهم" في وجه العصافير، لأنهم عاجزون عن إشهار سيوفهم في وجه ظاهرة تفتيت الوطن وتجزئته وظاهرة الحصار الظالم الذي يحرمهم من كل شئ.. وهنا نتوجه إلى "قادة اسرائيل" السياسيين والعسكريين بالسؤال التالي: "هل بُدئ بتنفيذ فتوى الحاخامات التي تقضي بتشريع قتل الأطفال الفلسطينيين"؟

إلى أن يجيب هؤلاء على سؤالنا نقول: ألم يحن الوقت لأن نعتبر من دماء أطفالنا الذين يقضون يومياً شهداء الجوع والوجع والحصار والانقسام والتشرذم.. ألم يحن الوقت لتهتز شواربنا من عويل الثكالى والأرامل والمشردات من نسائنا.. ألم يحن الوقت لنهدئ من أنين جرحانا.. ألم يحن الوقت لكي نصغي إلى زئير أسرانا البواسل.. ألم يحن لنجعل من كل تلك المظاهر أسباباً يكفي لرأب الصدع وتجبير الكسر؟!

عزيز العصا/ نشر في القدس، بتاريخ: 17/11/2009، ص19