كلما حاولت الكتابة عن أسرانا البواسل تنتابني مشاعر يتداخل فيها الخجل مع الغضب والحنق والشعور بالقهر.. أما الخجل فمصدره أنك تجد نفسك متخلفاً عن الركب أمام أبطال يحفرون، بأظافرهم وأسنانهم، اسم الوطن في صخور لا تقوى قوة على إزالتها أو طمس آثارها.. وأما الغضب فهو من ذلك السجان الذي يتمتع بحجز حرية شباب وفتيات وأطفال رُضَّع وشيوخ رُكَّع.. وأما الشعور بالقهر فمصدره أنه ممنوع عليك زيارة فلذة كبدك لأنك مشروع شبهة أمنية (!!)، وإذا قُدِّرَ لك زيارته فالممنوعات كثيرة أقلها أنه ممنوع عليك مصافحته أما أن تفكر باحتضانه أو مخاطبته مباشرة فهذا ضرب من الجنون.. مَمنوعٌ على الرضيع أن يرنو إلى والدهِ إلا عبر زجاج يقاوم الأمومة، ويحارب الطفولة.. مَمنوعٌ على الأم أن تحتضن ابنها الذي لا يعدله في هذه الدنيا شئ.. ممنوع على الطفلِ أن يُقَبِّلَ الـ "بابا" أو الـ "ماما"..
أي أن هذا الأسير قد أصبح أسير قوانينَ ولوائِحَ وتعليماتٍ لا تهتم بمشاعرك، أو أحاسيسك، أو إنسانيتك.. بل الأولوية هي اجتثاث هذا الأسير من محيطه الاجتماعي، والإلقاء به في غياهب السجون وظلمة الزنازين.. وأما السبب فهو، ببساطةٍ، أنه قاوم الاحتلال إما بيده، أو بلسانه أو بأضعف الإيمان.
في وسط هذه الأجواء تجد نفسك عاجز عن الحديث، أو الكتابة، أو الخطابة... الخ، لأنك لا تمتلك الحد الأدنى مما يمتلكه أولئك الرابضون خلف القضبان.. تلك القضبان التي شهدت على صراع مرير منذ 60 عاماً.. تلك القضبان التي سئمت أن ترى الآسِرَ يعربد والأسير يجابه "مخرز الاحتلال" بالكف.. كف مدعوم بإرادة صلبة أقل ما يُقال فيها أنها إرادة شعب يرنو للحرية والتحرر مهما كان الثمن ومهما غَلَت التضحيات.
إذن فالصراع قائم، وهو من ضرورات الوجود، بل هو تعبير حي عن الهوية الوطنية.. ولكن تبقى أسئلة حائرة، أهمها: ما هي القواعد التي تحكم هذا الصراع؟ وما هي الأسلحة المسموح استخدامها؟ وما هي الأسلحة الممنوع استخدامها؟ وهل للظلم نهاية، أم أنه مرتبط بالقوة على قاعدة أن "القوي عايب"؟ وإلى متى يبقى الأسير أسير قوانين ولوائح ونظريات صاغتها أولويات المحتل؟... وتستمر الأسئلة بلا توقف.
إلى أن يجيب الاحتلال عن تلك الأسئلة وغيرها فإننا نجد أنفسنا أمام حالات لا تحتمل انتظار الاحتلال لكي يمن علينا بما تيسر له من إنسانية، ألا وهي الأسرى المرضى بأمراض مزمنة. ففي كل يوم تصدح أمهات الأسرى وزوجاتهم وأطفالهم بصراخ يتحدث عن أسيرهم المريض.. صرخات فيها من الألم ما يُسمع من به صمم، ويُنطق الأبكم، ويُشيب الرضيع. إلا أن تلك الأصوات تبدو مخنوقة وسط ضجيج السياسة والسياسيين، والمفاوضات والمتفاوضين، والهدنة والمتهادنين، والتحاور والمتحاورين، والانقسامات والمنقسمين، والمناظرات والمتناظرين، والصراعات والمتصارعين.. فخيول هؤلاء تثير غباراً يعمي البصر ويكاد أن يشوه البصيرة، ويتسلل إلى حلق الأم-الزوجة-الإبن-الإبنة لكي يعطل الأوتار الخاصة بالتعبير عن الظلم الواقع عليهم فرادى وجماعات.
فعلى الصفحة الثالثة من صحيفة القدس بتاريخ 26/10/2008م ظهر خبر بعنوان: مؤسسات حقوقية تحذر من استمرار تدهور الأوضاع الصحية للأسرى في السجون. وقد سيطر على الخبر اسماء أسرى يعانون من أمراضٍ مزمنة، وهم: نور العصا من العبيدية، وجبري غنام من اليامون، وبهاء الجلاد من طولكرم، والدكتور حاتم جرار رئيس بلدية جنين، وياسر نزال من قباطية، والشيخ عدنان عصفور من نابلس، وإبراهيم حبيشة من نابلس وأستبيح هذه الصحيفة الغراء عذراً أن أغوص في أعماق هذا الخبر الذي يزدحم بمفاهيم تستحق التوقف عندها بالقراءة والتحليل والتدقيق، منها:
1. هناك استهتار بحياة الأسرى يحتم علينا، كل من موقعه، تحمل المسؤولية الوطنية والأخلاقية اتجاه شموع تذوب من أجل أن نرى الوطن بأجمل صورة. فهناك 2000 أسير مريضٍ، لكل واحدٍ منهم قصة تشكل وصمة عارٍ في جبين كل من هو ساكت عن قول الحق. أما أهم المؤشرات على ذلك الاستهتار فهي:
الإهمال الطبي والمماطلة والتسويف في تقديم العلاج وإجراء العمليات الجراحية هي أحد أهم أسباب استشهاد الأسرى في السجون.
هناك العشرات من الأسرى من ذوي الأمراض المزمنة يعيشون تحت رحمة السجان لسنين حتى يأتيه دور العلاج.
2. إذا تناولنا قصة الطالب الجامعي الأسير "نور محمود العصا" ابن الـ 25 عاماً، الذي أصيب بفشل كلوي أثناء الأسر، كحالة للتحليل والدراسة فإننا، وبشهادة المنظمات الحقوقية وفق ما هو منشور في صحيفة القدس المذكورة أعلاه، وبعد الاطلاع على رسالة موجهة من مكتب ناصر ومتيا للمحاماة إلى نادي الأسير الفلسطيني، نقرأ بين السطور أن هذا الأسير هو "شهيد حي" بامتياز وأن الأسير نور قد تعرض لما يشبه الاغتيال. ويتضح ذلك من خلال الملاحظات والشواهد والتسلسل التاريخي لقصة الفشل الكلوي الذي أصاب الأسير نور، والذي يتلخص فيما يلي:
كان الأسير الطالب بكامل صحته وعافيته قبل أن يُختطف في 3/6/2007م وهو عائد من جامعة القدس حيث يدرس العلوم السياسية، ليُنقل إلى زنازين المسكوبية لمدة حوالى 100 يوم.. ولا يخفى على أحد ما تعنيه الإقامة في المسكوبية من تعذيب جسدي ونفسي لا يصمد أمامه إلا من امتلك صبر الجمل على حر الصحراء. ثم إلى عسقلان لمدة 5 أشهر، ليستقر به الأمر في سجن عوفر ذلك المكان الموحش الذي شهد على مأساة نور بفقدانه كليتيه.
وُضع الأسير في العزل الانفرادي عدة مرات ولأسباب غير معروفة. وفي إحداها، وبحسب الأسير نفسه، فإن سبب الانهيار في صحته والآلام في كليتيه، وما آلَ إليه الأمر من فشل كلوي، يعود إلى تناوله دواء قدمته له إدارة السجن.
كلما طلب الأسير المعاينة الطبية كان طلبه يُقابَل بالمماطلة، والتسويف، والتعطيل وعدم الاكتراث.. وأن تحويله للعيادة قد جاء بعد تدخل ممثل المعتقل واحتجاج الأسرى، بالاضراب عن العد وصراخهم في وجه سجانيهم، وكانت النتيجة أن أُعطي الأسير مضاداً حيوياً لا يخفف الألم ولا يعيد الكلية للعمل.
أقر أحد الأطباء المعاينين للأسير المريض، في مرحلة متأخرة، بأن "حالته صعبة وأن الإدارة تأخرت في نقله للعيادة وعلى هذا الأساس أمر بنقله إلى مستشفى تشعاري تصيدك". وفي هذا المستشفى تلقى الأسير الخبر اليقين، من طبيبة أخصائية، عندما أخبرته بأن الكلى قد تضررت عنده أخبرته بأنها لا تعرف السبب وأوضحت له أن عليه الخضوع لعملية غسيل كلى يومياً وبشكل دائم.
الآن، وبعد أن ثبت صحة اعتقاد الأسير ورفاقه بإصابته بهذا المرض المزمن، لا يوجد متابعة جيدة لحالته، رغم حاجته للرعاية الطبية اللازمة لمصاب بالفشل الكلوي. وعندما تقدمت أسرته بطلب إخراجه لمتابعة حالته، لا سيما وأنه في أواخر مدة محكوميته، قامت إدارة بابتزاز الأسير المريض وأهله وذويه باشتراطها دفع مبلغ ضخم من المال (يعادل راتب موظف لما يقرب من عام بأكمله) للإفراج عنه، لكي يتمكن من زرع الكلية التي يتنافس أشقاؤه، الذين شاركوه رحلة اليُتم من الأم كما شاركوه ظلمة السجن وقهر السجان، للتبرع بها.
لكي لا نغرق في البكاء والعويل، ولكي لا نعطي للاحتلال فرصة الاستمرار في الاستهتار بحياة أبنائنا الأسرى.. ولكي نثبت لأسرانا البواسل بأننا أهل لأن نكون ذوي قربى لهم.. ولكي يتيقن أسرانا بأن تضحياتهم تلقى التقدير والاهتمام من شعبهم الذي دافعوا عن وجوده وعن كبريائه.. ولكي تبقى الشعلة متقدة وتنتقل من جيلٍ إلى جيلٍ فإنه لا بد من التحرك الجاد، كل من موقعه، لنتعاون مع المنظمات الحقوقية المحلية والدولية لنصرخ، معاً، صرخة شجاعة في وجه الظلم الواقع على شعبنا الذي يقبع أكثر من 11000 منه في غياهب السجون والذين يعاني خُمسُهُم من أمراض مختلفة..
عزيز العصا- نُشِر في صحيفة القدس بتاريخ 30/10/2008م صفحة 20
العبيدية 27/10/2008م
إرسال تعليق Blogger Facebook