0

نسب أديب حسين؛ كاتبة-قاصة فلسطينية، قادمة من مكان في الوطن الفلسطيني، أُرِيدَ له ان ينسلخ عن جوهره الأصلي، ذلك المكان-الوطن والمكان-الجغرافيا، الذي ندين بالحفاظ عليه، وتأكيد هويته العربية-الفلسطينية، لمن كانوا نماذج رائعة فأنجبوا نسب وأمثالها، من جيل الشباب، لكي يعضوا على "فلسطينهم" بالنواجذ؛ من خلال مواجهتهم، الجريئة والشجاعة، لتهويد الإنسان والمكان والزمان، ومن خلال تلك الأقلام الواعدة، الواعية لدورها اتجاه شعبها وقضيته، التي تحفر في الذاكرة كتابات، من قصص وروايات وأشعار؛ تحفظ للوطن صورته الأصلية (ببهائها وجمالها).
لقد قدر لي ان اقرأ لهذه الكاتبة العربية-الفلسطينية-الراماوية–المقدسية، قبل أكثر من عامٍ من الآن، مجموعة قصصية بعنوان: "مراوغة الجدران" فأضافت لي، ولمن قرأها، معرفة كانت تنقصنا؛ ألا وهي توثيقٌ لأحداثٍ، جرت أثناء النكبة في العام 1948، على الجغرافيا، التي تقطنها "نَسَب".
الآن؛ ها نحن نسبر أغوار مجموعةٍ قصصيةٍ جديدة بعنوان: "أوراقُ مطرٍ مُسافرٍ"، صادرة عن دار الجندي في العام 2013، عبارةٌ عن (21) قصة قصيرة، تتوزع على (135) صفحةٍ من القطع المتوسط، مهداة الى "التي كلما سافرت تتبعُ خطوها.. أو عادت بلهفٍ ترتقب عودتها". من خلال هذا الإهداء نجد أن "نَسَب" قد استهلت مجموعتها، منذ السطر الأول، بالوفاء وتجديد العهد لمن ضحى، وتحفظ الفضل لصاحب الفضل. 
تربض هذه المجموعة القصصية بين غلافين جميلين: 
فأما الاول؛ فيحمل مشهدا جميلا يشيع الأمل في النفس، إذ تجتمع فيه فصول السنة، بأكملها، ولكن المطر (المسافر) هو سيد الموقف، ومصدر الخير العميم والرخاء الوفير، وهو ناقل قصاصاتٍ؛ تحمل في ثناياها رسائل حبٍ وعهدٍ ووفاء، من مختلف الأنواع والأشكال، يتبادلها المحبون والعشاق القابضون على جمر المثل العليا والأخلاق الحميدة، التي تحفظ للوطن هيبته في نفوس محبيه، ووحدته في مواجهة أعدائه. 
وأما الغلاف الثاني؛ فيحمل (تقييمات) متزنة للكاتبة ومجموعتها القصصية بتوقيع ثلاث قامات أدبية: إبراهيم جوهر، جميل السلحوت ويحيى يخلف، في حين أن الكاتب الكبير محمود شقير أتحفنا بالتقديم لهذه المجموعة على مدى ست صفحات زادت الجمال جمالاً. وتبدأ هذه المجموعة بالقصة "احتمالات قليلة.. مسافات اقصر" الحاصلة على الجائزة الثانية من مسابقة نجاتي صدقي عن وزارة الثقافة الفلسطينية في العام 2012.
قمت بمحاولة السفر مع أوراق "مطر" نسب حسين فرأيت، في (عشرٍ) منها، ومضات تتوزع على المحاور التالية:
اولا: صورٌ وتشبيهات:
 لقد أتحفتنا "نَسَب"، في مجموعتها هذه، بتعابير تنعش العقل، وتريح الفؤاد، وتعبر عن مشاعر تختزن في الذاكرة، كوصفها للمريض، بالقول: "لقد خانه جسده وراح رماد حرائقه، يترسب في عظامه؛ ينهشه ببطء ليجعله عاجزا"، وفي قولها: "الظل يفهم جميع اللغات" و"البحر ابتلعه الليل"، وفي دعوتها لأن "ندع الاطفال يأخذوا دورهم ليعتلوا أبواب أحلام الطفولة".
ثانياً: الطفولة البريئة، وذكرياتها، حاضرة بقوة: 
فقد قامت "نَسَب" بتوظيف الطفولة البريئة وخصائصها، وما يتصل بها من الأمومة ذات المشاعر المتدفقة، ومن الذكريات الدافئة، في مشاهد مختلفة؛ مما منح النصوص مستوى عالٍ من الدقة والموضوعية، التي جعلتها أقرب إلى العصير الطبيعي؛ الخالي من الصبغات و/أو الكيماويات التي تفقده نكهته وتحمّله خصائص غير مرغوبٍ بها. 
ففي قصة "فوق الركام وخلف الدخان" تجد نفسك أمام "دراما" مؤلمة-موجعة للأطفال الذين ترتقص فرائصهم؛ خوفاً، وبرداً، لدرجة أنهم أصبحوا ينتظرون "ملك الموت" القادم مع قذائف العدو، الذي خطف طفلتين منهم.
كما أن "نَسَب" أجادت في وصفها للكبار وهم يستذكرون طفولتهم، في قصص: "هواجس عند مدامع الطفولة"، "فوق الركام وخلف الدخان"، "أمل" و"انسياب الذاكرة"، من حيث:
1) الأمكنة: وهي أماكن اللعب؛ كالأحياء القديمة، والأبراج، والحارات والأزقة، التي هدمها الاحتلال و/أو غير ملامحها الأصلية. كالسور الحجري القديم الذي استخدمه الأطفال كبرج للمراقبة، ومدخل المدينة الشرقي (عكا) الذي أصبح مرفوع عليه "علم إسرائيل". 
2) الأتراب؛ رفاق الطفولة، اللعب (بأشكاله وأنواعه المختلفة)... الخ. فحيثما وردت ذكرى "صديق الطفولة" تجد الحزن والكآبة على أيامٍ خلت. مثل "الكوة الصغيرة" التي كانت ذات يوم بريداً يتبادل فيه الأطفال الرسائل.  
3) (تختلس) لحظات من غياب الأطفال لكي تتأرجح كما كانت في طفولتها، وهي تتمنى أن تحملها الأرجوحة بعيداً؛ لتطير وتكون كما هي العصافير. 
4) توظيف ما تعلموه في صغرهم في تربية أبنائهم، ففي قصة "أمل" تستذكر الأم طفولتها، فتحاول اقتباس ردود "أمها" على تساؤلاتها (التي فهمتها بعد عشرين عاماً) لكي "تسعفها" في الرد على التساؤلات الحالية لابنتها.
وفي غالبية تلك المشاهد؛ أرى "نَسَب" وكأنها تود التذكير بأن (الاحتلال)؛ الذي داهم الوطن، قد "محى" المكان والزمان و"كَنَسَ" الطفولة ببراءتها وذكرياتها الجميلة. الأمر الذي يتطلب منا، كل بطريقته، استذكار طفولته وتوثيقها؛ لأن فيها تاريخ وطن وقضية شعب شُرِّدَ عن أرض الآباء والأجداد.     
 ثالثاً: الاحتلال مصدر التعاسة والبؤس:
حيثما وردت مأساة؛ نجد أن الاحتلال مصدرها الرئيس لما آل إليه حالنا وأحوالنا من تيهٍ وتشرد وبؤس. ففي قصة "الخيمة" نجد ذِكْراً لـ "مخيمات شتاتنا الفلسطيني على أرض وطننا وفي خارجه"، وفي قِصَّتَيّ "فوق الركام وخلف الدخان"، و"أمل" نجد أن الاحتلال يقتل الأبناء (تحت الركام الناجم عن قذائفه) ويقتل الزوج، وقذائفه تحيل السكن إلى ركام تميت الأطفال وعيونهم منتبهة على الدمى الراقدة بقربهم، ومن هول ما يرى الأطفال ويسمعون، فإن بقي منهم على قيد الحياة، يتساءل: متى راح نموت؟
في قصة "هواجس عند مدامع المدينة" تصف "جدار الفصل العنصري" الذي بدأ كقطعة صغيرة، ثم راح يمتد ويكبر كالسرطان. ذلك الجدار الذي تتأذى منه حتى العصافير، والذي يقبع خلفه "جارٌ حقود". كما تجلت "نَسَب" في وصف الأثر البائس للاحتلال على حياة الشعب الفلسطيني، الذي شمل كل شئ؛ حتى أن الحيوانات: القطط والحمير والأغنام أصبحت تصرخ (احتجاجاً) على الاحتلال وممارساته العنصرية. أما العصافير، التي يستوقفها الجدار ويطالبها بالهوية، فلها موقف إيجابيٌ من قضية وطننا.
أما الأسير؛ برمزيته الوطنية، فقد أفردت له "نَسَب" قصة بعنوان: "شتاءٌ آخر دونك" جعلت فيها الشعب، كله، يصفق لـ "خطيبة الأسير المحكوم بمؤبدين" مما يخفف عنها من آلام الشوق، وعذابات فقدان معطف "خطيبها"؛ عندما "يصير المطر أجمل عازفٍ في التاريخ". 
رابعاً: طبيعة المجتمع "الاسرائيلي":
في قصتها الأولى: "احتمالات قليلة.. مسافات اقصر" ظهرت العجوز-الطبيبة، المتواضعة التي تركب الحافلة كأي مواطن ولا ترهق دولتها بسيارة خاصة ومرافق، وهي تأخذ دورها "إطفاء" نيران الألم لمريضٍ فلسطيني. 
ما عدا ذلك؛ نجد أن المجتمع الاسرائيلي، مجتمع احتلالي هش؛ غير متماسك، أفراده وقحون، إلى حدٍ كبير. ففي قصة "هواجس عند مدامع المدينة" تظهر المرأة التي في صوتها الكثير من النشاز وتمضي به بشكل جهور كأنما الطريق ملك لها، والسكان عنصريون ويرفضون الآخر؛ إذ أنهم (ينزعجون) من صوت الأذان حتى أنهم قد يفكرون في تقديم شكوى إلى محكمة العدل العليا لكي تفرض السجن على الريح؛ لا تحمل صوتا عربيا اليهم!!". 
وفي قصة "رهبة البناية" يظهر المجتمع-الخليط (الروسي والبريطاني وغيرهما)، غير المتجانس، الذي لا يأمن أفراده لبعضهم البعض، فمنهم المريض نفسياً ومنهم "الغامض" الذي يجهله جيرانه جهلاً تاماً. الأمر الذي يجعل، الجميع، في حالة من الرعب والتخوف والتوجس من المجهول القادم من أي فرد منهم اتجاه الآخرين.
كل ذلك؛ مقابل المجتمع الفلسطيني، الذي تتميز أسره بالتماسك والتعاضد في كل الظروف، ففي معظم قصص هذه المجموعة نجد أن الصغار يستذكرون أصدقاء الصبا ويزورونهم ويتواصلون معهم، كما أن قصة "سؤال" حملت في ثناياها موقفاً إنسانياً رائعاً للأم التي "احمرت" عينيها لكثرة البكاء على ابنتها وهي على سرير عملية جراحة القلب، الفتاة نفسها التي تنسى آلامها وتحاول "استحضار" والدها الذي مات منذ زمن. ولعل أكثرها تعبيراً، "سامي" (في قصة انسياب ذاكرة)؛ ذلك الموظف الذي "صعقه" خبر وفاة صديقه؛ فانفجر باكياً، وألغى التزاماته ليتوجه إلى المقبرة؛ لعل صديقه ويعلم أنه عاد.. عاد متأخراً.     
أختم بما ورد في قصة "أحلام صغيرة.. دروبٌ ضيقة"، حيث يظهر الاحتلال وقد هدم البيت، وحطم الطفولة، حتى أحال (الذكريات) إلى ركام، ليعيد الأسرة إلى "الخيمة" مرة أخرى، فتنتقل الخيمة من الجد إلى الحفيد على يد الاحتلال نفسه.. وما ورد في قصة "شتاءٌ آخر دونك" حيث "خطيبة الأسير"؛ تلك المرأة الفلسطينية-النموذج، رمز الحب والوفاء والتضحية من أجل الحبيب، أياً كان الثمن. وما ورد في قصة "انسياب ذاكرة" من تزوير للتاريخ على يد الاحتلال الذي يرفع في عكا "نصبٌ" لفارسٍ على قمة أسموها "تل نابليون"، علماً بأن نابليون قد هُزِمَ شر هزيمة في هذه المدينة، حيث قال، وهو يقف أمام أسوارها: هزمتني قرية اسمها عكا، وهزمني عتال من الشرق اسمه "أحمد باشا الجزار".. 
بقي أن أقول: لقد وجدت نفسي أمام مجموعة قصصية، مشبعة بالحقائق الدامغة للاحتلال الذي هو الأسوأ والأشرس والأطول في التاريخ المعاصر.. كما أن فيها دروساً تربوية وفكرية وتاريخية، مشبعة بالدعوة إلى الصبر على المكاره، وابتداع آليات إدارة الأزمات، وبالقيم والمثل العليا المتوارثة بين الأجيال. 
وإلى صانعي القرار أقول: امنحوا أبناءنا؛ من طلبة المدارس والجامعات فرصة الاطلاع على "أوراق مطرٍ مسافرٍ" لكي تأخذ "نسب حسين" بأيديهم وهي تسافر بهم، ويسافرون معها في ربوع وطننا الغالي؛ فلسطين من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها..

عزيز العصا/ فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 9 حزيران، 2014
نشر في القدس، بتاريخ: 4/07/2014، ص24

إرسال تعليق Blogger

 
Top