لقد أجمع المحللون، والسياسيون، والإعلاميون، والمراقبون، كما أجمع المبصرون وغير المبصرين، من يسمع ومن هو مصاب بالصمم.. أجمع هؤلاء على أنه لأول مرة في التاريخ القديم والمعاصر، تؤدي حكومة القََسم بجزأين منفصلين تماماً، تفصل بينهما جغرافيا متعددة التضاريس والمناخات.. كما أنه لأول مرة يتم ذلك، عبر تاريخ البشرية، ومنذ اتباع أسلوب التصوير الجماعي للوزراء الجدد، كأحد وسائل التوثيق والتأريخ لمرحلة ما، لشعب ما، ولدولة ما على هذه الأرض.. لقد كان هذا هو حال الحكومة الفلسطينية العاشرة التي يرأسها الأخ اسماعيل هنية، والتي أدت القَسم أمام الرئيس محمود عباس، عبر الـ "فيديو كنفرنس" في 29/3/2006م .
إذا تساءلنا عن الأسباب التي أدت لهذا الحال المثير للاستغراب والاستهجان، فإن الإجابة المركزة والسريعة، التي تبرق في ذهن المتسائل، هي أن صانع القرار الأمني – السياسي-- الاقتصادي—التعبوي في اسرائيل قد منع هذه الفسيفساء الفلسطينية، من تشكيل اللوحة الفنية الجميلة التي تعكس الظاهرة الديمقراطية الفلسطينية. أقول "الظاهرة" لأنها حالة متميزة بين كافة الديموقراطيات، نشأت وترعرعت وسط غمام الحرب، وقد غطت رائحتها ونكهتها على رائحة البارود المنبعث من كل مكان في هذا الوطن. فهي ليست كالديمقراطيات الغربية التي تمارس في أجواء من الدَّعَةِ، والطمأنينة، وفي شوارع وحارات وأزقة تغمرها روائح الورود والزهور والأشجار التي تحيط بها من كل مكان. وهي ليس كالديمقراطيات الشرقية التي يكون فيها قوة واحدة وحيدة، ترفض الآخر وتنفي وجوده.. بل إنها ديمقراطية شعب حي، مكافح، يحب الحياة بعزة وكرامة، ويعض على ثوابته بالنواجذ، ويتربع على رأس تلك الثوابت، ثابت غير معلن في برامج أحزابنا وفصائلنا، بل هو سلوك نسلكه جميعاً، فرادى ومجتمعين، وهو ثابت احترام الآخر، والاعتراف بإنجازاته، وعدم المساس (بشكل مباشر أو غير مباشر) بمن يعارض. وهناك إيمان فطري يعتمر في صدورنا، وهو أن المعارض والحاكم وطنيان حتى النخاع.
وعليه، فإن حكم العلاقة بين أي وجهتي نظر في فلسطين، أو موقفين، أو حزبين، أو كتلتين.. إلخ، هو حكم العلاقة بين نصفي برتقالة يافاوية واحدة؛ نكهتها واحدة، وقشرتها واحدة، وإذا ما غرست بذورها في أي أرض، في الوطن أو في الشتات، فإنها تزهر بأزهار فلسطينية بهية المنظر، عطرة الرائحة، طيبة الثمار، حلوة المذاق تغذي أبناء الوطن على المحبة، والإحترام، وتقدير الآخر.
لمن يعتقد بأن الوصف أعلاه مبالغ فيه، أقول: لنتذكر جميعا المرحوم القائد أبو عمار، عندما كان يتعامل مع معارضيه ومنتقديه بشهامة القائد، الواثق من نفسه، المؤمن بأصالة شعبه كإيمانه بعدالة قضيته. ولنتذكر جميعاً المراهنات المختلفة على حرب أهلية فلسطينية، وقد شطح خيال البعض لدرجة استحضار الحالة الجزائرية بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية في هذا العام (2006م)، فكان الحوار الحمساوي-الفتحاوي حوار الرجال للرجال، والقادة للقادة، وحوار أبناء الوطن الواحد، الموحدين في الرؤية والاستراتيجية القائمة على التنافس في النهوض بالوطن نحو الأفضل، بل أفضل الأفضل. ولنتذكر جميعاً المراهنات على انكسار واحد من الرئاسة أو رئاسة الوزراء، وقد شطح خيال البعض إلى إشاعة أن الرئيس محمود عباس في طريقه إلى الاستقالة، فكان رد كل من الرئيس ورئيس الوزراء فلسطيني اللغة، والخصائص، والسمات، فتنافسا على احترام كل منهما للآخر وتقديمه على نفسه، بل واعتبار مصالح الشعب الفلسطيني فوق كل اعتبار شخصي و/أو حزبي. أما مجلس الوزراء فسيبقى ملتئماً، منسجماً، فاعلاً، مهما تعددت أمامه المعيقات والحواجز، ومهما باعدت المسافات بين نصفيه، لأننا شعب لا يبحث عن صورة جماعية، بل نمارس الفعل الجماعي، والوحدوي الهادف إلى مواجهة الصعوبات، وتجاوز الأزمات بالحكمة والحنكة أياً كان ارتفاع الأمواج.
لذلك فإننا مؤمنون بأن حركة التحرير الوطني الفلسطيني –فتح-، والفصائل والقوى والكتل التي لم تشارك في الحكومة، سوف تكمل المشوار نحو الدولة، والعودة، والقدس، لأنهم أصحاب مشروع وطني سطروه بالعرق والدم. كما أننا مؤمنون بأن الحكومة الجديدة سوف تحمل "الكشكول" الفلسطيني، بما له وما عليه، لشعب يرنو لحياة حرة كريمة على أرض الآباء والأجداد.
أخيراً وليس آخراً، أقول: لقد آن الأوان لكي نزهو بالبرتقالة الفلسطينية التي لن تنقسم يوماً، وأنها عصية على أن تُعصر مهما ازدادت الضغوط عليها، ومهما كان دهاء "العصّارين"، فهي فلسطينية التربة، والهوية، واللون والنكهة.
العبيدية في 29/3/2006م
بقلم: عزيز العصا/ نُشرَ في القدس، ص20، يوم الأحد، بتاريخ 2/4/2006م
إرسال تعليق Blogger Facebook