عذراً نهاد أبو غربية.. فإنني أخاطبك بلا ألقاب لأن ألقابك أكثر من أن تُكتب.. فأنت الأستاذ.. وأنت المعلم.. وأنت التربوي.. وأنت الفلسطيني حتى النخاع.. وأنت الأب الحنون.. والصديق الصدوق.. وأنت أنت كل هذا المذكور وذاك الذي لم يُذكر.. ولكي لا أتحيز للقب بعينه، فضلت أن أستخدم الاسم الذي يرادف كل تلك الصفات والألقاب مجتمعة إنه نهاد أبو غربية....
عذراً أستاذي.. لقد تعلمنا منك الكثير الكثير، واسمح لي أن أقتبس منك ما تيسر..
أتَذكُر أستاذي عندما دخلنا إلى مكتبك مصطحبين طالباً، اعتقدنا نحن بأنه قد أساء إليك، ففاجأتنا بأن نهضت من مقعدك واحتضنت الطالب، وقلت له: أعتذر لك يا بني فقد كنت أنا أول من أساء إليك.. فكنت نعم التربوي-الأب ونعم الأب-التربوي.
أتَذكُر أستاذي كيف كنت تشيع جو النكات التي لا تُنسى عندما كنت تمازحنا وتمازح زملاءنا الآخرين، وكنا نضحك حتى تبان نواجذنا وتنهمر دموعنا.. أما الشيخ المرحوم فارس إدريس الذي كان الأقرب عمراً منك، وفي معظم الأحيان يكون هو بطل النكتة، فكان يغرق في الضحك حتى تهتز كتفيه فيعدل وضع اللفة ويعيد ترتيبها استعداداً لجو المرح والسرور.. فكنت نعم المدير القائد والقائد المدير الذي يزيل غبار الطباشير عن شفاه معلميه.. وينعشهم بعد يوم عمل مُرهِق.
أتَذكُر أستاذي كيف كنت تمد يدك إلى جيبك، أو إلى الجارو لا يهم، عندما تقرأ في عيون أيٍ منا حاجة مالية ما، فتسلفه لكي لا يستلف من الآخرين.. فكنت نعم المدير- الصديق و نعم الصديق-المدير، وكان اسمك عند أفراد أسرنا يعني الملاذ عند الأزمات.
عذراً أستاذي.. لقد آن الأوان أن نودعك، فهذه سنة الله في خلقه، ولا اعتراض على قدر الله عندما يسترد أمانته.. لقد آن الأوان أن نوثق لك ولمسيرتك التي امتدت لقرن من الزمن.. وعندما سألني أصدقائي عن سبب حزني الشديد، على فراقك، قلت:
نهاد أبو غربية.. اسم حُفِرَ، باللغة العربية الفصحى في صخور القدس وعلى أعالي جبالها وهضابها.. فكل القدس تشهد له كتربوي غرس لنأكل، وغرس لتأكل الأجيال القادمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
فنحن جميعاً مدينون لـِ "نهاد أبو غربية" الذي أرسى، بالتعاون مع رجالات القدس في حينه (أذكر منهم المرحوم محمد أبو شلباية)، واحداً من أهم أعمدة "عروبة القدس" وهي الكلية الإبراهيمية الملاصقة للجامعة العبرية. تلك الكلية التي تُدَرِّس عن القدس بأقصاها وقيامتها وصخرتها، فتحفظ لها عروبتها وفلسطينيتها.. ولولا إصرار نهاد أبو غربية لكانت الكلية الإبراهيمية واحدة من كليات الجامعة العبرية.
ونحن أمام نهاد أبو غربية صاحب المدرسة الفكرية التي لا يمكن أن يتجاوزها من يريد الكتابة عن نماذج المدارس في القدس.. ولا أعتقد بأن هناك من يشبه نهاد أبو غربية المدير.. وأنا في هذا المقام أطلب من أحد أن يدلني على مدير يصر أن يطلع على كافة أوراق الاختبارات اليومية لكافة الطلبة.. ليطالع العلامة ثم يمهر الورقة بقلمه الأخضر، وبخطه الجميل، معززاً الطالب/ة بقوله: ممتاز أو أشكرك، أو موجهاً لصاحب العلامة المتدنية بضرورة تحسين أدائه في المرات القادمة قائلاً: انتبه لنفسك.
ونحن الآن أمام نهاد أبو غربية الوطني صاحب الفكر الذي كرس مؤسسته في حقب تاريخية مختلفة، لتكون منبراً يصدح فيه أصحاب الفكر بفكرهم دون أن يميز بين شقيقه بهجت "البعثي المعروف في حينه" وغيره من المفكرين والمناضلين من مختلف المشارب.. فكانت الكلية الإبراهيمية الملاذ لهم عندما يشتد الخطب.
عذراً نهاد أبو غربية فقد بان علينا الارتباك، والتلعثم، والحيرة، وعدم التوازن.. فنحن أمام فقدان قائد ترك لنا إنجازات عمرها قرن من الزمن.. انجازات شهدت حربين عالميتين، وشهدت على تشرد شعب بأكمله بين أصقاع الأرض.. وشهدت على حروب أدت للمزيد من التشريد والتشتت.. وشهدت على انتفاضتين لشعب رفض الظلم والطغيان.. وشهدت على مؤامرات تهدف المساس بعروبة القدس وإسلاميتها ومسيحيتها..
وفي كل تلك المشاهد كنت أنت نهاد أبو غربية واحداً من أبطال المسرح الذين يشار إليهم بالبنان، ورفيقة دربك زوجتك الفاضلة نديرة التي كانت نعم السند ونعم المستشار لك في كل شأن. وفي كل تلك الظروف كان لك بصمتك المحفورة في كل زوايا القدس وشوارعها وأزقتها.. أما الكلية الإبراهيمية فهي مزدانة بجمالياتك التي ستعتز بها الأجيال.. ولعلني كنت أقرأ في عينيك أنك كنت توثق للمرحلة، بل تربط الماضي بالحاضر لترسم سيناريو المستقبل، وأنت توجه الفنان عوض أبو عرمانة وهو يرسم اللوحات التي تطلبها منه.
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نتوجه إلى البارئ، جل وعلا، أن يهدي القائمين على هذا الصرح العلمي-التربوي-المقدسي المتميز ليكونوا، كما عهدناهم، خير خلف لخير سلف. فيكملوا الرسالة التربوية التي أرسى قواعدها المتينة والصلبة فقيدنا المرحوم نهاد أبو غربية.
العبيدية، 25/4/2009م
بقلم: عزيز العصا/ نُشِر في صحيفة القدس بتاريخ 29/4/2009م صفحة 19
إرسال تعليق Blogger Facebook