في صبيحة 23/5/2006م، وعلى صفحتها الأولى، وبالمانشيت الأسود، أطلت علينا صحيفة القدس بعنوان:"اشتباكات مؤسفة في غزة تسفر عن استشهاد أردني ومواطن وإصابة آخرين". قبل التعليق، وقبل الخوض في تفاصيل الخبر، أتقدم بأحر التعازي من أسرة الشهيد وأهله وذويه. وإنه ليؤسفنا حقاً أن يقضي ضيفنا العزيز بهذه الطريقة التي آلمت كل من ينتمي إلى فلسطين الأرض والوطن والهوية. كما أدعو الهادي جل شأنه، أن يرحم شهداءنا، ويشفي جرحانا الذين طالتهم رصاصات عمياء ضلت الطريق.
لقد أُلحق الخبر-الفاجعة بأخبار فرعية ذات صلة، أهمها أن ثلاثة أذرعة عسكرية تؤكد على ضرورة التوحد والاحتكام إلى لغة العقل، كما أن وزارة الخارجية الأمريكية تدين الاشتباكات وتدعو فتح وحماس إلى انهاء العنف (!).. حتى اللحظة، قد يبدو الخبر عادي في وصفه للحدث، في ظل الظروف الاستثنائية من "مد وجزر" بين أطراف تتصارع على أرض غزة، لأسباب مبهمة (لم نفهمها بعد).. أما ما يجرح الفؤاد، ويُوثق لفداحة الحدث، فهو تلك الصورة التي التقطتها كاميرا بارعة، يظهر فيها ما يستدعي المسببين الوقوف أمام ضمائرهم، وأمام مسؤولياتهم الوطنية. ففي الصورة أطفال يتوزعون بين منبطح على الأرض، أو من يركض ورأسه بين قدميه، أو من يحمي دراجته الهوائية بجسده الغض النحيل، وبعمود فقري نخره الجوع والبؤس، ولسان حالهم يقول: لأقضي أنا، ولتبق الدراجة التي اشتريتها من ثمن خبزي، ومن ثمن كتابي، لتبقى الوسيلة الوحيدة لتنقل من يتبقى من أسرتي!!! كما أن هناك مواطنون تائهون، مذعورون، يلتصقون ببعضهم، ليشكلو كتلاً بشرية، تبحث عن جدار يقيها زخات الرصاص الأعمى، الذي يحصد كل من يعترض طريقه.
لست شاعراً كي أبكي أطفال غزة هاشم وشيوخها ونسائها، ولست سياسياً كي أحلل ما وراء الخبر، ولست بعالم اجتماع أو عالم سيكولوجي كي أُسقط مفاهيم ونظريات تفسر ما يحدث، كما أنني لست متخصصاً في علم "الأمن والأمان" كي أحدد هوية "الغيوم الرصاصاتية" التي تداهم أبناءنا الذين قفزوا وفرحوا لما سمي، في حينه، تحرير غزة. ولكنني مواطن مؤمن، إيمان العجائز، بأن ما يجري لا يبتعد كثيراً عن صراع الأشخاص الذي لا يخلو، بين الحين والآخر، من الصيغ "الاستعمالية" للمسميات الفصائلية. أما أن يُطلق عليه حرب أهلية، أو ما يقترب من هذا المسمى، فهو ظلم صارخ لشعب قدّم شلالات دم متواصلة عبر عقود من الزمن. كما أنني اؤمن بأن من يحلو له اطلاق هذا المسمى، المخيف، على ما يجري في بلادنا، فإما أنه يمتلك في داخله الرغبة لأن يراها على أرض فلسطين، أو أنه لا يدرك معنى الحرب الأهلية من حيث الأسباب، والحيثيات، والعناصر والعوامل الداعمة لها والضامنة لتأجيجها، والنتائج المتمخضة عنها.
فالحرب الأهلية لا تنطلق بمجرد مصطلح يطلقه هاوٍ في السياسة، أو من ينطبق عليه مقولة "يحرق بلدة بكاملها كي يشعل سيجارته"، بل أن هناك أسباباً تكون ضامنة لانطلاقتها، وتأججها و/أو تأجيجها، أهمها:
o أن يكون المجتمع متعدد الأعراق والقوميات المتعددة المشاعر، والثقافات، والانتماءات. فينشأ بينها صراع (نزاع) عرقي، يحركه تعدد الخنادق، والتضاد والتناقض في التوجهات والأهداف. ويأتي ذلك على قاعدة اعتبار وجود (الآخرين)، على نفس الأرض، هو التناقض الرئيسي والخطر الداهم على وجودها، وتُغَيّب التناقضات الأخرى، أياً كانت خطورتها على الوطن.
o أن يكون المجتمع متعدد الأديان والطوائف، التي تحمل في داخلها معتقدات تدمير الآخر واجتثاثه، أو السيطرة عليه.
إذا ما تم اسقاط العوامل والمحركات المذكورة على الحالة الفلسطينية، فإننا نصل إلى نتيجة مفادها: أن تلك العوامل غير متوفرة لدينا، ولا بأي شكل من الأشكال؛ لأن شعبنا موحد الاتجاهات، وأنه يملك في داخله القناعة التامة بطبيعة التناقض الرئيسي القائم مع الاحتلال، وأن كل ما عدا ذلك يندرج تحت عناوين لتناقضات ثانوية، يسهل السيطرة عليها، إذ أنها لا تعدو مسائل خلافية تتراوح في مستوياتها بين الحوار الساخن وحتى الاشتباك، أو ما يمكن أن نطلق عليه "الاقتتال"، المحدود المساحة والتأثير. ولعل أوضح مثال على ذلك أن العديد من الأسر الفلسطينية تزهو بابنائها الذين ينتمون إلى فصائل مختلفة، وهم يعيشون تحت سقف واحد، ويتقاسمون رغيف الخبز في كل وجبة، في جو من الحوار الأخوي، أمام أم وأب يزهوان بهم، ويختزنان في صدريهما "الكوكتيل" السياسي-العقائدي-الايماني الفلسطيني بلون واحد، وبطعم واحد، وبنكهة واحدة كما عشقهما لأبنائهما وبناتهما. ولمن يتجاهل حالة التوحد هذه، أقول: ألا تعلم بأن هناك أزواج يتوزعون بين الفصائل التي يراهن البعض على اقتتالها؛ أي أن الزوج ينتمي إلى فصيل (أو حزب) والزوجة تنتمي إلى آخر، وقد أنجبا بنين وبنات، وعاشا في رغد من العيش دون أن يقتتلا يوماً؟!!
أقول هذا كله بثقة عالية، مستمدة من تراثنا الكفاحي؛ فقد ورثنا من فتح ما قاله الشهيد القائد صلاح خلف من أن "البندقية غير المُسَيّسة قاطعة طريق"، وما ورثناه عن القائد الشهيد أبو عمار "عَ القدس رايحين شهداء بالملايين"، ولم يرفع يوماً شعار "عَ فصيل (...) رايحين شهداء بأي عدد". أما في أدبيات حماس، فقد ورثنا عن الشهداء أحمد ياسين، والرنتيسي، وصلاح شحادة وغيرهم، بأن الدم الفلسطيني خط أحمر، يحرم العبث به، في كل الظروف. أضف إلى ذلك حركة الجهاد الاسلامي التي عارضت الانتخابات الأخيرة بأجمل صورة من صور احترام الآخر، وبكل تقدير لوجهة نظره. أما الجبهات الأخرى الشعبية، والديمقراطية، وغيرهما التي يُسَجّل لها ما يحظى بالاحترام والتقدير في مجال الحفاظ على الوحدة الوطنية، والعمل الدؤوب على تحقيق ذلك على الأرض.
وعليه، فإن التاريخ، القريب والبعيد، يثبت أن البندقية الفلسطينية الوطنية الفلسطينية ذات بوصلة محددة الاتجاه، وأي استدارة لها نحو الصدر الفلسطيني هي شبهة وهي الوقوع، بل السقوط، في المحرمات. كما أن إفراغها من محتواها الفكري-الكفاحي هو إخراج لها عن السياق الطبيعي الذي يرفضه العقل الباطني الفلسطيني، وأن من يمارس هذه الاستراتيجية يجد نفسه في حالة عزلة تامة عن مجتمعه، كما أنه يغرد خارج السرب. لأن شعبنا فتيّ في متوسط الأعمار، إلا أنه يمتلك خبرة الشيوخ، ورجاحة عقلهم، وتراكم خبرات الحياة بكل تناقضاتها. كما أن الذاكرة الفلسطينية لا تقبل الالتفاف عليها، و/أو الاستخفاف بها، أياً كان "المُلتَفون"، ومهما كان مستوى الذكاء الذي يتمتعون به.
وإذا أحاولنا الاغراق في التاريخ الحديث، وفي الجانب المتعلق بالعلاقة مع الاحتلال، فلا بد لنا من أن نتذكر حلم رابين، أو تمنياته، بأن يصحو وقد "ابتلع البحر غزة". وعليه فإن غزة المتميزة بصلابة أهلها، وتميز انتمائهم لوطنهم وأمتهم، تشكل عنواناً كفاحياً-نضالياً-صمودياً، لا يستطيع أحد المزاودة عليه، أو العبث فيه. وأعتقد بأن المساس بهذه الخصائص والصفات، الراسخة في ذاكرة التاريخ، لا يبتعد كثيراً عن تحقيق الحلم المذكور لقائد عسكري-سياسي يدرك ما يقول، كما يدرك كيف يدير الحلم الهادف لحفظ أمن البلد الذي يقود.
لقد أثبتت الأحداث أن شعبنا بقواه، وفصائله، ومؤسساته يمتلك كيمياء خاصة، تمنحه القدرة على استكشاف النوايا والتوجهات. فنحن مدرسة عالمية يتعلم منها أحرار العالم حول كيفية الاختلاف، وعلى ماذا نختلف، وفوق هذا كله يتعلمون منا فن تطويق الأحداث والالتفاف عليها، بما يخدم القضية، ويحافظ على حرمة الثوابت وقدسيتها. وليس أدل على ذلك مما قام به أسرانا البواسل من طرح وثيقتهم التي ترفض المساس بحرمة الدم الفلسيني، وتدعو إلى التكاتف، بل التلاحم حفاظاً على وحدة الدم والمصير. بهذا يكون أسرانا الأبطال، وهم أساتذة تلك المدرسة العالمية، قد أكدوا على الهرم الفلسطيني المرتكز على قاعدة متينة من الوحدة الوطنية، والديمقراطية التي على الجميع التعامل معها على أنها افراز طبيعي لما يمارسه الشعب من حق، كفلته له القوانين واللوائح والأنظمة الفلسطينية التي صيغت بالدم، والعرق، والكفاح المتواصل عبر مسيرة شعبنا، الذي قاتل بيد وبنى باليد الأخرى. أما أن يحاول، أياً كان، قَلب هذا الهرم؛ بجعل الاقتتال يؤدي إلى الاستعانة بالأجنبي على الوطني، أو التلذذ في إدارة معارك التشهير والتشهير المضاد، فيعتبر خروج على الصف، وعبث بالمقدرات، واستخفاف بالثوابت وبدماء الشهداء، الذين سلموا الراية لنكون أمناء عليها، ولنخلفهم فيما قضوا من أجله.
إلى كل من يجد في نفسه القدرة على حمل هذا العبء.. إلى الأخ رئيس الدولة.. إلى الأخ رئيس الوزراء.. إلى قادة الفصائل.. وإلى من يهمه أمر الشعب الفلسطيني، هذا الشعب الذي كثيراً ما يستخدم اسمه في شعارات العمل الجاد، والبناء، والترميم، وإعادة البناء.. اليكم جميعاً، أقولها بلسان طفل بريء ضاعت رضاعته، وبلسان شيخ عجوز تحطمت عكازته، وبلسان امرأة حامل أصبحت لا تأمن على وليدها المنتظر، وبلسان طالب "عبقري" يرعبه صوت الرصاص، وينسيه كافة الأفكار والطموحات التي يحلم بها لبناء الوطن. بلسان هذا وذاك نقول أنكم أمام مسؤولية تاريخية تتطلب منكم جميعاً أن تتجاوزوا "الشخصنة"، وأن تقفزوا على كافة أشكال الذاتية، في معالجة الأمور، واجتثاث كافة عوامل الفتنة، بقدر ما يتعلق الأمر بكم من المكشوف من تلك العوامل. وصدق الله القائل في محكم كتابه العزيز "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم" صدق الله العظيم. فَـ "الآخرين" الذين هم مجموعة المرتبطين بالاحتلال، والذين ينفذون مخططاته، تحت جنح الظلام الذي توفره لهم الخلافات، والاختلافات، وما يرافقها من عدم القدرة على حسم الأمر بالاتجاه الذي يخرجنا من مقولة "قام مجهولون... " إلى مرحلة تحديد "المجهول" وكشف القناع. ولعل من الإنصاف لتراثنا أن نستخدم المثل الفلسطيني القائل: "دهن الزيت فوق الشعر لا يُبرىء الجَرَب". بهذا فقط "تورد الإبل"، وبهذا فقط تكون قيادة شعبكم الذي انتخبكم، واعتبركم خياره، بالاتجاه الذي يحفظ له كرامته وكبرياءه، ويصون دماء أبنائه، ويوفر الأمن والأمان، رغم فداحة الحصار، ورغم صَلَف المحاصِرين.
العبيدية، 27/5/2006م
بقلم: عزيز العصا/ نُشِر في صحيفة القدس بتاريخ 6/6/2006م صفحة 19
إرسال تعليق Blogger Facebook