0

بقراءة هادئة، وموضوعية، وغير متشنجة، ولا محكومة لوجهة نظر سياسية محددة، نجد أن الأوضاع في العراق تتركز في الصور والملامح الرئيسية، التي أصبحت ظاهرة للعيان على "محيّا" كل من: 1) أمريكا، ومن يدور في فلكها؛ إسرائيل والغرب.  2) إيران، ومن يدور في فلكها؛ المنظومة السياسية العراقية القابعة في المنطقة الخضراء ببغداد، والنظام السوري وبعض الأحزاب كحزب الله وغيره. 3) تركيا، التي تتألم من خاصرتها الجنوبية-الشرقية على طول (331) كيلومتراً.
أولاً: الأمريكان: يتضح من خلال أحاديث قادتهم، أن الاستراتيجية الأمريكية (الجديدة) في العراق تقوم على الثوابت التالية:
1) إن غزوهم للعراق لم يكن نزهة، وأنهم لم يُستَقبَلوا بالورود؛ بل أن العراقيين واجههوهم بثورة عارمة جعلتهم (يهربون)، بعد خسارة (4500) جندي. وقد عبر وزير خارجية أمريكا/ جون كيري عن هذا كله، بقوله: "الولايات المتحدة بذلت الدماء وعملت بجد على مدى سنوات لتوفير الفرصة للعراقيين لتكون لهم حكوماتهم الخاصة بهم" ، الأمر الذي يعني (استحالة) إعادة الجنود الأمريكان إلى الأرض العراقية.
2) الوضع في العراق عصيٌ على الاحتلال: إذ تبين للأمريكان وغيرهم، ممن شاركوا في احتلال العراق، أن هذا البلد غير قابلٍ للانكسار، وأن أهله غير قابلين على أن يطوّعوا لصالح المحتل. ففي برنامج قناة الجزيرة "من واشنطن" بتاريخ 24/6/2014، تحدث "بول بريمر"/ الحاكم المدني على العراق بعيد الغزو، وكأن "في فمه ماء"، عندما أشار إلى أن "السيستاني" قد أفتى، أثناء الغزو، بأن يتعاون الجنود (العراقيون) مع القوات الأميركية، إلا أنه في أحداث الفلوجة في أبريل/نيسان 2004، وعندما تم استدعاء لواء عراقي كامل (مدرّب على يد الأمريكان)، انضم الجنود العراقيين إلى (المدافعين) عن الفلوجة؛ وقاتلوا المارينز. الأمر الذي يعني أنه لا يمكن (شراء) ذمم العراقيين لكي يسلموا بلدهم للأجنبي. 
كما أن ما جرى، ويجري، في العراق أعاد للذهنية الأمريكية ما جرى لهم في فيتنام؛ من حيث: صلابة المقاومة وتماسكها، وحجم الخسائر التي تلقاها الجيش والخزينة الأمريكيتان.
3) الحكم القائم في المنطقة الخضراء طائفي: إذ يتضح من حديث الرئيس الأمريكي/ أوباما، أن (المالكي) لم يتمكن من ضم جميع القوى السياسية العراقية تحت الخيمة الأمريكية-الإيرانية؛ كما كان يطمح الأمريكان. حتى أن الجيش، الذي انهار تحت ضربات المقاومة العراقية، قال عنه "بريمر" أن مؤهله الوحيد هو "تأييده للمالكي". الأمر الذي يعني أنه لن يكون للعراق جيشٌ؛ يدافع عنه ببطولة وفداء، كما هو عبر التاريخ، إلا إذا كانت عقيدته تقوم على الولاء للعراق-الوطن والعراق-الهوية؛ من زاخو إلى البصرة. 
4) ضرورة إعادة صياغة التحالفات في المنطقة: 
بناءً على الثوابت المبينة أعلاه، قررت أمريكا إعادة تنظيم الأوراق على الساحة العراقية وفي المحيط، على قاعدة أن يتم صياغة العراق الجديد، وفق الرؤيا الأمريكية، على أن يكون الثمن من دماء العراقيين أنفسهم، مع ضرورة مقايضة إيران بأن يكون لها الدور الرئيسي في ضمان عدم عودة العراق إلى عمقه العربي، ولكي لا يستعيد دوره في الدفاع عن البوابة الشرقية للأمة. 
كما سيشمل التحالف الجديد اسرائيل، التي استقبلت أول (دفعة) من نفط كركوك، والتي أعلنت عن جاهزيتها للمساعدة إلى جانب أمريكا (وإيران طبعاً). أما الساحة السورية؛ فسيتم إعادة توظيف (المعارضة!)، التي شكك أوباما في قدرتها على الإطاحة بنظام بشار الأسد،  لكي تصبح جزءاً فاعلاً في المعادلة العراقية كذلك، بأن يتم صرف نصف مليار دولار لهذه المعارضة لكي تقوم بدور وظيفي في مواجهة تنظيم "داعش"؛ الذي (حملوه) وزر هروب جيش المالكي أمام الثوار العراقيين في عدد من المحافظات، وبذلك سيتم التخفيف من الضغط على نظام الأسد، مما سيريح إيران ويشجعها على القيام بالدور الوظيفي المطلوب منها وفق ما هو موصوف أعلاه. 
ولعل في إرسال (النخبة) من العسكريين الأمريكان للمنطقة، رسالة واضحة للحلف الجديد بأن أمريكا لن تعود إلى الميدان لتقاتل العراقيين؛ وإنما المطلوب من مكونات هذا الحلف ضبط العراق، حتى لو تطلب الأمر تفتيته وتقاسمه بينهم، بما يضمن تحقيق الثوابت المذكورة أعلاه.
ثانياً: إيران: فقد تبين في الآونة الأخيرة أن إيران كذلك، تريد عراقاً ضعيفاً، مفككاً، مقتتلاً، متحارباً، مجزَّءاً؛ يُقدم لها على طبقٍ من ذهب، كما عودتها أمريكا، بلا أي نوعٍ من أنواع الخسارة، والذي لا يتم إلا بأن تتم تصفية الحسابات، لصالحها طبعاً، بدماءٍ عراقيةٍ-عراقيةٍ، ولذلك جاءت فتوى السيستاني-الإيراني التي تحض على مقاتلة الشيعة للسنة، والتي أتبعها "المالكي" بمقولة "أَصَمَّتْ" الآذان، وهي: أن الحرب على أرض العراق بين يزيد والحسين.
ثالثاً: تركيا: إن تركيا المقبلة على انتخابات حاسمة، لا تسعى إلى الدخول في "المعمعان" العراقي، وإن أكثر ما يعنيها: "عدم قيام كينونة سياسية كردية مستقلة على خاصرتها الجنوبية"؛ لأن في ذلك "مكمن" الشر المؤدي إلى اقتطاع جزء من أراضيها لصالح كيانٍ لأكراد تركيا، وإذا ما التحم الكيانان الكرديان؛ العراقي والتركي، فإن ذلك سيشكل تهديداً حقيقياً لمستقبل تركيا؛ على المستويين الجغرافي والديموغرافي. 
  لقد التقت جميع الدول المذكورة أعلاه على شئ واحدٍ وهو: أن هناك تنظيماً (صغيراً) هو الذي يقوم بملاحقة جيش المالكي، ولا يقرون بأن ما يجري على أرض العراق هو ثورة شعبية عارمة؛ تهدف إلى استعادة العراق المنهوب منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، لأن اعترافاً كهذا سوف يكشف أكاذيبهم أمام شعوبهم التي نهبوا خيراتها وساقوا أبناءها إلى (القتل) بإدعاء "(نصرة) العراقيين، الذين سيستقبلون جيوشهم بالورود، لكي يعيشوا في أجواء ديمقراطية!!".
أما العراقيون أنفسهم فإنهم يقولون غير ذلك، تماماً، ويتضح ذلك من الأمثلة التالية:
أولاً: تنبه الوطنيون، في جنوب العراق، إلى أن بلدهم أصبح في مهب الرياح الإيرانية، وأن انتفاضة الشمال والغرب هي: ضد ظلم شهدته محافظات كاملة، وبسبب ما مرّ على العراق من ويلات وكوارث وقتل وتهجير طائفي وفساد (مالي وإداري)، الناجم عن التقاء مصالح إقليمية لتخريب البلاد وتدميرها، وأن إيران وإسرائيل في مقدمة المتآمرين، وأن حكومة المالكي (الإيرانية الانتماء) قد مزقت النسيج الاجتماعي وفرقت المكونات والقوميات، وهي تستند إلى "قوانين باطلة ومنها قانون مكافحة الإرهاب"، دون أن تحقق أبسط مقومات الحياة الإنسانية. فنتج عن ذلك "حراك جدي في تلك الجغرافيا التي (يتبجح) المالكي بتبعيتها له"، مثل:
فإلى جانب الاغتيالات التي تعرض لها أحرار الجنوب العراقي، تم مهاجمة المرجع الشيعي السيد الصرخي الحسني، بالطائرات والمشاة، بسبب (فضحه) للأهداف (الشريرة) الكامنة وراء فتوى السيستاني لقتال الثوار الذين يقاتلون قوات المالكي.  وكأننا بـ "المالكي" يعلنها: "لا صوت يعلو فوق صوت إيران في العراق".
دعا سلام كتاب/ الأستاذ الجامعي في كربلاء إلى التحرك في كل محافظات البلاد والرد على (جيش المالكي). 
توجه الشيخان: أحمد الغانم (الأمين العام لمجلس شيوخ عشائر الجنوب) وكاظم العنيزان (أحد شيوخ ووجهاء البصرة) إلى شيوخ ووجهاء المحافظات (العراقية) الجنوبية بدعم "ثورة" المناطق المنتفضة، وسحب أبنائهم من الجيش والأجهزة الأمنية ومنعهم من مقاتلة أبناء عمومتهم وإخوانهم، وحذرا من الاستماع إلى الفتاوى وإعلام الحكومة الذي يصور لهم الأمر على عكس حقيقته.  
ثانياً: أما بالنسبة للثوار، فقد ورد على لسان "د. خضير المرشدي/ أمين عام الجبهة الوطنية والقومية والإسلامية في العراق" في لقاءٍ مع جريدة التيار السودانية (1/7/2014)، أن قوى الثورة (العراقية) عمادها ثوار العشائر العراقية، يقودها ويخطط لها ويشترك فيها رجال القيادة العامة للقوات المسلحة المجاهدة (من ضباط جيش العراق الباسل الذي حلّه الاحتلال)، والقيادة العليا للجهاد والتحرير، والمجالس العسكرية لثوار العشائر ومجلسها السياسي العام، وفصائل وجبهات المقاومة العراقية بدون استثناء، وأنها ثورة السنة والشيعة، والعرب والأكراد والتركمان، وبقية الطوائف والأديان والقوميات، والكل يقاتل تحت راية العراق، راية الله اكبر. وتهدف الثورة إلى "إقامة النظام الوطني الديمقراطي التعددي لذي يحقق التوازن والأمن ويحافظ على مصالح الجميع". وبخصوص تنظيم (داعش)؛ يشير "المرشدي" إلى أنه موجود، ولكن تضخيمه يهدف إلى تصوير الثورة في العراق ونعتها جميعها بالإرهاب لتحشيد الرأي العام المحلي والعربي والدولي ضدها . 
من جانبٍ آخر؛ نلاحظ أن وسائل الإعلام الغربية تفلت، أحياناً، من (العقال) الإعلامي الأمريكي والإيراني فتسمي الأمور بمسمياتها، مثل: وكالة رويترز والـ "بي بي سي" وغيرهما، ولعل "رويترز" تكون قد (فضحت) المستور بتاريخ 26/6/2014، عندما قالت: "إن الولايات المتحدة شعرت بالقلق من انضمام مزيج من عشائر سنية وميليشيات اسلامية واعضاء في حزب البعث". أضف إلى ذلك ما قاله "بريمر" المذكور أعلاه؛ وهو الخبير الأكثر دراية بالشأن العراقي: "هناك مقاومة من قِبَلِ الشعب العراقي، بعيدا عما يقال إنها مجموعات تنتمي للقاعدة".
النتيجة
يتضح مما سبق؛ أن العراق القادم، هو العراق الذي يحكمه أبناؤه الغيارى القادرون على إعادته، كرقمٍ صعبٍ، في المعادلات الإقليمية والدولية. ويعود ذلك إلى أن أمريكا، ومن تحالف معها، قد تعلموا درساً هاماً؛ وهو أن العراق عصيٌ على أن يتحول إلى مستعمرة غربية، يسهل تفتيته والعبث في خيراته. أما إيران، فلم تعد قادرة (حتى التفكير) في أن يكون العراق الحديقة الخلفية للإمبراطورية التي تسعى إلى إنشائها في المنطقة؛ وذلك من خلال الدرس الذي تعلمته عبر  حكومة المالكي وجيشه، وعبر فتاوى السيستاني التي يحاربها أحرار العراق: شيعة وسنة، عرباً وكرداً وتركماناً وغيرها من الأديان والطوائف والقوميات؛ هذه الفسيفساء التي تشكل الكل العراقي، العصي على الانكسار، عبر التاريخ وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 02/07/2014م
عزيز العصا/ نُشر في القدس المقدسية، بتاريخ: 10 تموز، 2014م، ص19

إرسال تعليق Blogger

 
Top