0

السابع والعشرون من كانون أول (ديسمبر) هو آخر سبت من العام 2008م. هذا اليوم الذي أصبح من الآن فصاعداً "السبت الأسود"، هذا السبت الذي سُجل فيه وصمة عار جديدة، أسماها الاسرائيليون "الرصاص المصبوب"، لتضاف إلى وصمات عارٍ سابقة.. 
كما أن هذا العار يتسع يوماً بعد يومٍ ليُضاف إليه، في كل مرة، العديد من الدول والمنظمات (الحقوقية وغير الحقوقية)، ومؤسسات المجتمع المدني، وبقية المؤسسات والمنظمات التي تتبجح، ليل نهار، بحقوق الإنسان وبخاصة تلك التي تعتقد بأنها قد نَذَرَت نفسها للدفاع عن الإنسان في كل مكان على سطح هذا الكوكب. أما العار الذي أعني فإنه يشمل أولئك المتواطئين مع اسرائيل، بشكل مباشر أو غير مباشر، والساكتين عن شرورها، والمدافعين عن ممارساتها اللاإنسانية بحق شعبنا الأعزل.. إنهم تلك "الشياطين الخرساء" الساكتون عن الصراخ في وجه عدوانٍ ظالم يحرق الحجر والشجر والبشر.
لعل الوقت لا يسمح بالتطرق لإحصائيات تتغير في كل لحظة، فأعداد الشهداء بالمئات (عُشرهم من الأطفال والنساء)، وأعداد الجرحى بالآلاف (خُمسهم من الأطفال) وتتسارع تلك الأعداد بالتزايد في كل لحظة بالنظر إلى القصف الجوي المتواصل، والهجوم البري الذي تعد اسرائيل العدة له. أضف إلى ذلك الموت الجماعي الذي يذهب بالأسرة بكاملها، أو يبقي بعضاً مما يبقى على قيد الحياة يتحسر على البقية.. أما أولئك المغمورين تحت الأنقاض، فلا أحد يسمع صراخهم، وأما المذعورين أو الذين يعانون من البرد الزمهرير، أو المشردين... الخ فلا أحد يولي لهم بالاً لأن أزيز الطائرات وصواريخها الساحقة-الماحقة أعلى من صراخ هؤلاء وعويلهم.. 
كما أن القصف لا يفرق بين جامعة، أو مستشفى، أو جامع، أو مركز أمني... الخ. أي أن مؤسسات المجتمع المدني هي المستهدفة بالدرجة الأولى. وهذا يعني، فيما يعنيه، أن المستهدف هو أي منظومة تؤسس لمجتمع مدني قادر على توفير الأمن والأمان والاستقرار للشعب الفلسطيني.
وإذا ما قدر لك، عزيزي القارئ، أن تجري عملية حسابية بسيطة لتقسم عدد أبناء غزة على تلك المشاهد المؤلمة لكانت النتيجة عدداً صحيحاً؛ أي أن أبناء غزة البالغ عددهم المليون ونصف المليون يتوزعون بين شهيد ينتظر من يواريه الثرى، وجريح ينزف بانتظار من يضمد الجرح لأن المستشفى قد قُصِف، ومذعور يفتش عن حضن يرتمي فيه ليلقى الطمأنينة والحنان، ومشرد تائه بين الأنقاض ينتظر من يدله على مكانٍ آمن (!!) يأوي إليه.
هذا هو حال أهلنا في غزة هذه الأيام، أما الذي يقف خلف هذا كله فهم قادة اسرائيل السياسيين والعسكريين الذين يمارسون هذا القتل المتعمد مع سبق الإصرار والترصد. فقد أعلن هؤلاء، مسبقاً، وأكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة، وفي أكثر من مكان بأنهم سيقومون بفعلتهم هذه التي يندى لها جبين الإنسانية جمعاء.
من جانبٍ آخر تجري هذه المذابح في أجواء من المهاترات، وتبادل الاتهامات، والخطابات المتضاربة على المستوى الرسمي (أي الناطقين الرسميين) في الجانب الفلسطيني-الفلسطيني، والفلسطيني-العربي، والعربي –العربي.. أي أن الحال مأساوي ولا يمكن السكوت عنه، أو الاستمرار فيه في ظل فضائيات ووسائل إعلام لا تأسف لحالة التأجيج تلك، بل أنها جزء من حالة الانقسام الفلسطينية. أما الجانب الشعبي الفلسطيني والجانب الشعبي العربي؛ من المحيط إلى الخليج فقد كان واضحاً في طرحه الداعي إلى الثورة في وجه المحتل، وواضح في شعاراته الغاضبة مما يجري بحق أهل غزة بكافة فئاتهم وشرائحهم السياسية والاجتماعية.
 أما إذا نظرنا إلى الطرف الآخر من المعادلة، وهو إسرائيل فإنها، كعادتها، تتوحد فيها الصفوف خلف المحاربين، وتختفي كافة الخلافات ويتوحد الخطاب الإعلامي الذي يحاول الإثبات بحق إسرائيل في "العربدة العسكرية" بالشكل الذي تريد وفي الوقت الذي تريد.   
وأما الولايات المتحدة، فلم يدلِ رئيسها القادم "أوباما" بشئ حول مئات القتلى من أبناء فلسطين، حيث تعذر الناطق باسمه بأن الرأي الأمريكي يعبر عنه الرئيس الرسمي للبلد "بوش". علماً بأن "أوباما" قد أدلى بدلوه في أحداث مومباي الهندية التي كان عدد ضحاياها أقل بكثير مما جرى في غزة.
إذا ما اتفقنا بأن لا مجال للحيادية، عندما يدلهم الخطب على الشعب، فإن على الجميع أن يطبق القاعدة القائلة: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وبغير ذلك فإن التاريخ لن يرحمنا، وأن الأجيال القادمة لن تجاملنا عندما تحملنا مسؤولية ما ستؤول إليه الأمور، وحينها سيقال عنا: أرجلهم من قصب وسيوفهم من خشب. 
ولعله مما يُثلج الصدر أن نستمع إلى الأخوة في قادة العمل الوطني، ومن كافة الفصائل، وهم ينادون، بمسؤولية عالية، إلى ضرورة تحييد حالة الاختلاف الداخلي، باعتبارها أقل بكثير من حجم المصاب الوطني في طفل يقضي بصواريخ الاحتلال التي انتزعته من حضن أمه، ثم مزقت أفراد أسرته إرباً إرباً.. أولئك الذين يدعون، ليل نهار، إلى مصالحة الرجال للرجال، وأن نتقاسم الأدوار الجهادية كما تقاسمنا الدم عبر العقود الستة الماضية، لأن الصواريخ العدوانية تستهدف الوجود الفلسطيني في غزة ببعديه الديمغرافي والجغرافي، وأن لا مجال للانقسام في المعركة. 
أما جماهير شعبنا الفلسطيني، في الوطن والشتات، فإنهم يضعون النفس والولد في خدمة هذه المعركة الشرسة، التي تستهدف هويتنا وكرامتنا.. كما أنهم اندفعوا، بلا هوادة، في اشتباكات مباشرة مع الاحتلال ليقدموا الشهيد تلو الشهيد والجريح تلو الجريح.. وأما جماهير أمتنا، من المحيط إلى الخليج، فها هي تنفجر في وجه التقاعس والمتقاعسين، وتقول كلمتها المدوية التي إن أُمِدَّت بالمقومات الضرورية فإنها ستأكل أخضر الأعداء ويابسهم.  
في ظل الوحدة والتوحد فقط نستطيع الانتقال إلى الخطوة الثانية والثالثة والرابعة... الخ. تلك الخطوات الهادفة إلى الحفاظ على كبرياء إنساننا وصون وجوده على أرض الآباء والأجداد. أما الاستمرار في تراشق الاتهامات، والرقص على أنغام بعض الفضائيات التي أخذت تعبث بالجرح الفلسطيني، بلا هوادةٍ، ولا رحمة، وبلا اعتبار لمشاعر شعبٍ يفتش في وسط هذا الركام، وفي حلكة هذا الليل الدامس عن شعاع أملٍ يوحد ولا يفرق، ويضمد الجراح بدل أن ينثر فيها أملاح الفرقة والتشرذم. 
إلى أن يسمع من هو صاحب ضمير حي في أمتنا.. وإلى أن يجتمع قادة الأمة ليقولوا ما تعودنا على سماعه عقب كل معركة.. وإلى أن تصحو الـ 190 دولة الموقعة على اتفاقية جنيف لإيقاف الحرب الوحشية بحق أبنائنا في غزة.. وإلى أن يندى جبين الإنسانية مما يجري من ذبح لأسرٍ بكاملها (من الحفيد إلى الجد) في غزة.. إلى أن يتحقق هذا وغيره فإن الواجب الوطني يقضي بأن نقف وقفة رجل واحد، وأن يؤمن كل منا، إيمان العجائز، بأن الوطن لا يقسم على اثنين، وأن التاريخ لن يرحم متقاعسٍ عن الذود عن الحمى، بيده أو بلسانه أو بأضعف الإيمان. 

عزيز العصا/ نشِر في صحيفة القدس بتاريخ 5/1/2009م صفحة 15

إرسال تعليق Blogger

 
Top