الآن، وبعد مرور ما يقارب الشهر على سقوط أول "قطرة!" من "أمطار الصيف" الاسرائيلية على غزة، وبعد دخول الحرب "المفتوحة" على لبنان أسبوعها الثاني، وفي هذه الأيام، الحالكة السواد، من عمر فلسطين، ولبنان، والأمتين العربية والاسلامية، ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، والعالم بشكل عام.. في ظل هذا كله أصبح من المفروض علينا التفكير بتوازن، بعيداً عن "نارية" البيانات، وبعيداً عن الأجواء التي تضعنا فيها أخبار "البث المباشر"؛ هذا البث الذي نتقدم منه بالشكر والتقدير، لما له من دور هام في إطلاعنا على تفاصيل التفاصيل، ولما تبذله وسائل الإعلام من جهود، ومغامرات خطرة من أجل ذلك، وبعيدا عن الاحصاءات المتعلقة بأعداد الشهداء والجرحى من أطفال ونساء ورجال، بل أُسر بكاملها من الشعبين، الفلسطيني واللبناني (فالحبل على الجرار)، وبعيداً عن أعداد "المصدومين والمصدومات" من الاسرائيليين. أما التوازن الذي أتحدث عنه، فهو العودة إلى الاستراتيجيات التي تنطلق منها أطراف الصراع المختلفة؛ سواء كانت هذه الأطراف من هم في أتون المعركة من فلسطينيين ولبنانيين، أو من يكتوي بنيرانها، بشكل غير مباشر، من أنظمة، أو جماهير منفصلة عن أنظمتها في رؤيتها للأحداث وقراءتها لمستقبل الأجيال القادمة، أو الثماني الكبار وما يتبعهم من آخرين صغار؛ الذين يديرون دفة الصراعات بما يخدم مصالحهم ومصالحهم فقط.
نظراً لأن "اسرائيل" هي العامل المشترك في هذا كله، فقد ارتأيت، في هذا المقال المتواضع، أن أستعرض بعضاً من استراتيجياتها. وفي محاولتي للوصول لهذا الغرض، وبعيداً عن تصريحات الرسميين في إسرائيل؛ من ساسة وعسكريين، التي تتناقلها وسائل الإعلام صباح مساء، فقد أخذت أبحث في آراء كتّابها ومحلليها.. إذ أن صحافتهم مكرسة، دائماً، لخدمة استراتيجياتهم التي يجمعون عليها، والتي تكون سنداً حقيقياً لصانع القرار؛ سواء اختلف مع وجهة نظر الكاتب أو اتفق معها. وأثناء تَصَفُّحي لـِ "فلسطين برس الالكترونية"، بتاريخ 18/7/2006م، وهو اليوم السادس للمعركة "المفتوحة على لبنان، واليوم الرابع والعشرين لهطول الأمطار "التموزية" على غزة، عثرت على ثلاث مقالات وتقرير أمريكي. وتحمل المقالات في ثناياها وجهات نظر لثلاثة كتّاب اسرائيليين، حيث "استل" كل منهم قلمه و"امتطى" صحيفته التي تنشر له، بلا حسيب ولا رقيب، ليُسهِم في المعركة على طريقته. أما الكتاب فهم: موشيه ارنس/ وزيردفاع سابق، وداني روتشليد/ رئيس مجلس السلام والأمن في إسرائيل، ويوئيل ماركوس/ كاتب ومحلل سياسي. وأما التقرير الأمريكي فهو بعنوان "حزب الله فَتَحَ جبهة خطيرة، وخسائر لبنان مكاسب لسوريا وإيران". وتتجه الخطوط العريضة للمقالات نحو تحليل الوضع العسكري لإسرائيل في حربها على أرض لبنان-فلسطين. أما التقرير الأمريكي فإنه "يتجول" في منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب.
نظرا لأن لكل كاتب عنوانه، ورسالته التي أراد أن يوصلها لقرائه؛ من جمهور وصانعي قرار، فان المتمعن في تلك المقالات الصادرة بأقلام خبراء في مجال العسكرية و/أو السياسية، يستطيع الخروج بانطباع يغطي مساحة، لا بأس بها، من الاستراتيجيات، المعلنة وغير المعلنة التي تقود السياسي-العسكري في اسرائيل أو، في حدها الأدنى، تسلط الضوء على مجريات الأحداث، والسيناريوهات التي يتم الإعداد لها، أو تلك التي يتم تنفيذها على الأرض حالياً. أما أهم ما ورد في هذه المقالات، من وجهة نظر كاتبيها، فإنه يتلخص في مجموعة من النقاط، التي تتراوح بين الاستراتيجي والتكتيكي، وفق ما يلي:
أولاً: آخر ثلاث حكومات أدت إلى خسارة إسرائيل لسمعتها وقوة ردعها: يلاحظ من خلال المقالات بأن هناك، ما يشبه الاجماع، على أن التراجع في هيبة اسرائيل وقوة ردعها قد بدأ من انسحابها من الجنوب اللبناني. كما يعتقدون بأن الحكومات المتعاقبة، منذ ذلك الحين، قد أوصلت اسرائيل إلى ما هي عليه الآن. ولعل أرنس أكثرهم وضوحاً في اتهامه للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، برئاسة باراك، وشارون، وألمرت "بالحماقة وفقدان اليقظة والجاهزية"، وأنها "نامت وهي خلف المقود". وأن تلك الحكومات قد تبنت "شعارات عديمة المغزى"، سواء في الشمال أو في الجنوب، ويرى بأن "الأوهام حلت محل مواجهة المخاطر". وتتجلى نظرة (أرنس) من خلال عنوان مقاله "حكومات اسرائيل نامت أثناء قيادتها للدولة والآن آن الأوان لتوجيه ضربة ساحقة لأعداء".
يرى أرنس بأن قصة النوم، التي يعتقد بها، قد بدأت "عندما وَجَّه باراك أوامره للجيش بالانسحاب فجأة من المنطقة الأمنية في جنوب لبنان". وفي نفس السياق يرى روتشيلد بأن باراك قد "ضَعُفَ أمام حزب الله". من جانب آخر يعود أرنس ويؤكد على اتهامه الصريح لـِ "باراك" بما يشبه الجُبنَ والخداع، إذ يرى بأن باراك كان مشغولا في مشاريع أخرى عندما " نكث عهده" للإسرائيليين بالدفاع عنهم "عندما قام حزب الله باختطاف ثلاثة جنود بعد الانسحاب بخمسة شهور".
أما شارون فانه لم يسلم من "ماركوس" عندما أشار إلى عجزه عن "منع إطلاق صواريخ القسام بعد فك الارتباط "، كما انه " تجنب لمس حزب الله بعصا طولها مائة متر"، في حين أن "أرنس" يدين شارون لانسحابه من غزة.
ثانياً: الحكومة الحالية: أنانية، وتفتقر للخبرة العسكرية، وقد تعيد التجربة المرة في لبنان: إضافة إلى ما وصفه أرنس للحكومة الحالية بأنها ممن "ناموا على المقود"، فإن "ماركوس" يرى بأن صانعي القرار فيها أنانيون وعديمي الخبرة العسكرية. وقد ركّز على من أسماهم "النابليونات الثلاثة"، وهم: رئيس الوزراء/ اولمرت، ووزير الدفاع/ بيرتس، ورئيس الأركان/ حالوتس، مشيراً إلى أن لكلٍ منهم أهدافه الخاصة به. إذ يرى "ماركوس" بأن رئيس الأركان (حالوتس) " يتطلع للتحول إلى اكبر القادة العسكريين منذ إقامة الدولة إلى أن يصل إلى رئاسة الوزراء"، في حين أن ألمرت وبيريتس يفتقران للخبرة العسكرية، بالرغم من أنهما يطلقان العنان للتصريحات، والتهديد، والوعيد بسحق حزب الله. مما قد يؤدي، من وجهة نظر ماركوس، إلى إعادة ما أسماه "التجربة المريرة في الورطات الدموية والحافلة بالأكاذيب التي ذقناها خلال 18 عاما من حرب لبنان".
ثانياً: نتائج الانسحابات، والربط بين الجبهتين الفلسطينية واللبنانية: يعتقد الكتاب، وبخاصة أرنس، بأن نتائج انسحاب اسرائيل، من لبنان وغزة، قد أدت إلى:
1. الانسحاب الذي نفذه باراك كان بداية تراجع وضعف القوة الردعية الإسرائيلية في الشمال.
2. أصبح "الأعداء" مقتنعين بان إسرائيل ليست إلا نمرا من ورق، عندما تطلق التهديدات ولا تنفذها.
3. استمد الفلسطينيون من الانسحاب من جنوب لبنان " القوة، فشرعوا في انتفاضتهم الثانية التي حصدت أرواح إسرائيليين كثيرين جدا".
4. انسحاب شارون من غزة ، الذي يسميه أرنس "الانسحاب البائس"، "قد منح فرصة للفلسطينيين لتعزيز قدراتهم"، معتقداً بأنه قد مكنهم من جلب السلاح، وانتاج الصواريخ، وحفر الأنفاق.
5. لم تؤد الانسحابات المذكورة إلى هدوء الجبهتين؛ الشمالية والجنوبية. ففي الشمال "أطلقت عشرات صواريخ الكاتيوشا على الجليل، وجرت مهاجمة الجيش الإسرائيلي"، ويستذكر أرنس أنه بعد خمسة شهور من الانسحاب من جنوب لبنان، "قام حزب الله باختطاف ثلاثة جنود". وفي غزة استمر اطلاق "صواريخ القسام التي كانت تنزل مثل المطر على راس سدروت وغيرها من التجمعات الحدودية"، الأمر الذي انتهى بما جرى في كرم أبو سالم.
ثالثاً: نصائح و/أو توصيات لاستعادة إسرائيل لسمعتها وقوة ردعها: لقد أدلى كل من الكتاب المذكورين بِدَلوِه، ناصحاً، وموجهاً، ومحذراً من المخاطر. وتتلخص نصائحهم وتوصياتهم بما يلي:
يتطرق الجنرال داني روتشيلد في مقاله بعنوان: "مع أن الجيش الاسرائيلي أقوى جيوش المنطقة، إلا أن هناك عوامل ستؤثر على نتائج الحرب في لبنان" إلى تساؤل استراتيجي يتعلق بهيبة إسرائيل، وعنفوانها الذي تمكنت من بنائه عبر السنين. فتطرق إلى العوامل التي تعيد لإسرائيل قوتها الردعية، التي يعتقد بأنها قد خسرتها خلال السنوات الماضية. وقد حصرها بعاملين رئيسيين، بينهما علاقة جدلية-صميمية، هما: عامل القدرة العسكرية، إذ يرى بأنه "لا يوجد الكثير من جيوش العالم التي توازي وتعادل الجيش الإسرائيلي من حيث ما يمتلك في هذا المجال" ، والعامل الخاص بقدرة القيادة على اتخاذ القرارات التي يمكن بواسطتها تمكين محتوى العامل الأول من إنجازها وتنفيذها. وتتلخص خصائص القيادة وصفاتها، من وجهة نظر روتشيلد، في القدرة على اتخاذ القرار السياسي الداخلي لتحريك وتشغيل هذه القوة، والحاجة لإعطاء وزن وحساب لرد الفعل الدولي على أي قرار، وقوة صمود الشعب ومقدار تحمله. هذه الخصائص التي لا يرى "ماركوس" أن الحكومة الحالية تمتلك القدر الكافي منها.
اما ارنس، الذي ينتقد الحكومات المتتابعة التي "امتنعت عن توجيه ضربات سريعة خاطفة ردا على الفلسطينيين"، فإنه يبدي غبطته بقوله: "الآن عادت القوات البرية إلى غزة للقيام بما توجب القيام به منذ عشرة اشهر".
أما ماركوس، الذي قال بلغة شارونية، بأنهم يخوضون الآن " أكثر الحروب عدالة في تاريخ إسرائيل"، فإنه ينصح بما يلي:
1. "تغيير قواعد اللعبة في لبنان من دون الاستخفاف بقدرات حزب الله".
2. عدم الانزلاق في حرب برية في المنطقة التي "يعرف حزب الله كل ثقب فيها"، مذكرا جيشه قائلاً: "... ونحن قد اكتوينا من هذه المنطقة وذقنا مرارتها".
3. يطالب جبهته الداخلية، التي يعتقد 86% منها بعدالة الحرب على لبنان، بأن " تأخذ نفسا عميقا" بانتظار وساطة دولية تؤدي إلى " شل حزب الله كقنبلة موقوتة" على حدودهم!!.
4. عدم تخفيف الضغط العسكري إلى أن تحضر الوساطة الدولية المذكورة.
الاستنتاجات: إن القراءة الدقيقة، والمتأنية لتلك المقالات، وبعد أن تم عرضها وتحليلها، وتحديد نقاط الالتقاء فيما بينها، تجعلك تقف أمام مجموعة من الحقائق، منها:
1. لم يُخفِ الكتّاب والمحللين المذكورين خوفهم الشديد على مستقبل "دولتهم"، وقد ظهر هذا جلياً في مقال وزير الدفاع السابق أرنس، الذي أبدى انتقاده اللاذع لجميع الحكومات التي كان لها علاقة بالانسحابات، علماً بأنه لم يتطرق إلى الانسحاب من سيناء.
2. يرى الكتاب المذكورين بأن الانسحاب من لبنان، والذي يُحَمِّلون باراك مسؤوليته، قد أثر على البعد الاسترتيجي للصراع مع كل من الفلسطينيين واللبنانيين. لاعتقادهم بأنهم يشكلون ثنائية مؤلمة لاسرائيل، وأن لكل منهما أثره على الآخر. وقد يأتي ذلك في ظل النظرة العامة للعلاقة المتميزة بين سوريا وإيران وكل من حزب الله، وحماس، والجهاد الاسلامي.
3. لم يُشِر أي من الكتاب المذكورين إلى جذور الصراع، وأسباب تأججه، سوى ما يعتقدونه حول العوامل التي، من وجهة نظرهم، تحفز الحالة المقاومية-القتالية لكل من اللبنانيين والفلسطينيين، والتي يعزونها إلى الخلل في صانعي القرار في اسرائيل المتعلق بالانسحابات المختلفة. ولم يتطرق أي من الكتّاب إلى الغارات الاسرائيلية شبه اليومية على الفلسطينيين، التي أدت إلى إراقة دماء فلسطينية غزيرة، كما لم يكلف أياً منهم نفسه بالاشارة إلى أعداد الأسرى، الفلسطينيين والعرب، الذين يعانون قسوة الأسر ومرارة الاغتراب عن أسرهم، أضف إلى هذا كله ما تتعرض له كافة شرائح الشعب الفلسطيني، يومياً (من إهانة، وإذلال، وإهدار للوقت... الخ) على مئات الحواجز التي يقيمها الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المنتشرة بين المدن والقرى.
4. تجلى من المقالات عدم الاكتراث بالدم الذي يُراق في فلسطين ولبنان، وأن التوجه الرئيسي هو لكيفية المحافظة على القوة الردعية؛ أي الهيمنة المطلقة لاسرائيل في المنطقة، بما يمكن قراءته على أنه فهم استراتيجي يفيد بأن لا وجود لاسرائيل إلا بالقوة (المفرطة في معظم الأحيان)، ويتضح ذلك من مطالبة أرنس بما أسماه "الضربات الساحقة"، والتراجع عن الانسحابات التي تمت من غزة ولبنان. في حين أن ماركوس يبدي غبطته الشديدة من الضربات "الساحقة" التي تستهدف لبنان، دون أن يعود إلى هناك، ليس حرصاً على الجيرة ومشاعر الجيران، بل خوفاً من الخسارة؛ أي أن يكون الصراع ذو نتيجة باتجاه واحد وهو أن تخسر المعركة جميع أطراف الصراع، دون أن يُمس في "اسرائيل" جندي، أو حجر، أو شجر... وكأنه يريدها "حرب بالريموت". ويبدو أن وجهة نظره هذه لم تلقَ آذان صاغية ممن وصفهم ماركوس بـِ "النابليونات"؛ فقد جردوا الجيوش لغزو لبنان وخوض التجربة الاحتلالية، التي قد لا تكون مطلباً اسرائيلياً بقدر ما هي مطلب لراسمي سيناريو الشرق الأوسط الجديد، ويتجلى هذا الفهم من خلال الشعار الذي رفعه مؤخراً متظاهرون في ساحة رابين في تل أبيب "لن نَقتُل ولن نموت في خدمة أمريكا".
أخيراً وليس آخراً، أجد نفسي أمام حقيقة رئيسية، وهي أن الاسرائيليين من صانعي قرار، وكتاب، ومحللين في الشأن السياسي-العسكري، على الأقل في هذه المرحلة، هم نائمون على المقود (وليس الحكومات التي يتحدث عنها أرنس فقط)، وأنهم يلقون بثقلهم على دواسة الوقود الذي سيشعل المنطقة ليصل بها إلى ما يتنبأ به التقرير الأمريكي المذكور، والذي أقتبسه حرفياً كما هو "بصرف النظر عن اتفاقية لوقف اطلاق النار، أو تطورات المستقبل القريب تبقى إيران، وسوريا، وحزب الله، والقاعدة، والعراقيون المتطرفون قادرين على توسيع الصراع مقابل تضحيات قليلة من جانبهم بالهجوم على اسرائيل والولايات المتحدة بطريقة غير مباشرة". بناء عليه، فإنني أعتقد بأن ما يجري يضع كافة المتنفذين في قواعد اللعبة أمام امتحان عسير، لعل أهم سؤال فيه: هل تنهمر أمطار الصيف، الموجهة نحو الفلسطينيين واللبنانيين نحو الأعلى؟! وفي حالتي الإجابة بـِ "نعم" أو "لا" يبقى مصير المنطقة برمتها "على كف عفريت".
العبيدية 23/7/2006م
بقلم: عزيز العصا/ نُشِر في صحيفة القدس بتاريخ 25/7/2006م صفحة 19
إرسال تعليق Blogger Facebook