إياد شماسنة.. شابٌ فلسطيني؛ شاعر، روائيٌ، ممرضٌ، باحثٌ.. تحاوره فيحلق بك، بأدبه الجم، فوق السحاب ليستمطر مشاعرك وأحاسيسك ويجعلك تذرف دمعتان: الأولى؛ دمعة فرح لإياد وجيله من الشباب المنطلقين بسرعة نحو مستقبل مزهر.. والثانية؛ دمعة حزن وكآبه من ذلك الحصار المطبق على "إياد" وأبناء جيله؛ المبدعون الذين يتجرعون مرارة الصراع على الوجود والهوية، مذ فتحوا عيونهم على هذه الدنيا..
يمتلك "إياد شماسنة"، إنتاجاً من الشعر والرواية والبحث العلمي حُق لنا أن نعتز به.. ومن بين إنتاجه هذا؛ قُدِّر لي أن اقرأ ديوانه الشعري: "التاريخ السري لفارس الغيار".
ما أن تلقي نظرة على غلاف هذا الديوان إلا وتمتطي حصانك، وتنطلق خلف هذا الفارس؛ لإماطة اللثام عن وجهه والتعرف عليه.. وهذا ما فعلته على مدى بضعة أيام؛ لهذا الديوان الشعري الذي صدر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع – عمان يتألف من (138) صفحة من القطع المتوسط؛ تحتضن (33) قصيدة.
يقدم "شماسنة" لكلٍ من تلك القصائد بما يشير إلى مدلولات القصيدة، ومحورها الرئيسي، ليأخذنا بعيداً عن الغموض؛ كي لا يخطف أبصارنا وميض المفردات المعزولة عن معانيها.. إنه نمطٌ يعبر عن المدرسة التي ينتمي إليها إياد شماسنة؛ التي تمنح القارئ فرصة مشاركة الشاعر مشاعره وأحاسيسه المتدفقة بكل الاتجاهات، التي تشير إلى عمق فلسفة الشاعر ودقة قراءته لما يدور حوله من أحداث. ويستهل شماسنة ديوانه هذا مخاطباً القارئ؛ بأن لا يوقظ الغافي من الألم، ويراعي ذمة الله فيما يأخذ..
يزخر الديوان بمجموعة من الرؤى، والمفاهيم، والآراء، والقيم، والمبادئ والمثل العليا المتعلقة بالوطن والتضحية دفاعاً عنه، والمجتمع ومقومات تماسكه، والأسرة كمنظومة مشبعة بقيم الحب والوفاء..
لذلك؛ وجدتني مضطراً لأن أبلور القصائد المكونة لهذا الديوان، وأعيد تحليلها وفق المحاور الرئيسية المكونة له، وهي:
أولاً: رؤيا "شماسنة" الخاصة:
يقدم نفسه شاعراً يغرف من بحر، فيقول: دائما هناك قصيدة لم أقلها، وقصيدة أخرى أريد أن أقولها، وقصيدة أبدية لن أقولها أبداً.. إلا انه يعود ويذكرنا بتواضعه بقوله:
وانّي، وان يعرف الناس قدري،
أحاول أن لا أطيل افتخاري
ويدعونا أن نبحث معه عن الفرح المفقود، والمنشود؛ القابع خلف الأقنعة، فيقول:
فارتَدَتْ للِّقاءِ أَقْنِعَةً، كي
تَتَمادى، وَلِلحُتوفِ حُتوفُ
والشُّموسُ التي قَصمْتُ إليها
منكبي، قد طغا عليها الكسوف
من أجمل ما يتصف به شماسنة، في ديوانه هذا، الدعوة للتغيير ليس في مجال السلبيات فقط والتخلص منها؛ بل على مستوى الإيجابيات والجماليات، أيضاً، التي يدعو الى جعلها في حالة حراك وتجديد دائمين.. فالعطور، من وجهة نظر شماسنة، أكثر من غيرها تعرضا للضجر، وأسرعها فقدانا للدهشة عندما يعتريها الضجر.. ويعزز ذلك بقوله:
مثابرٌ في اجتثاثِ اليأْسِ منْ فِكري
مقاتلٌ لانْتزاع الشَّوك من طرقي
وليس تُعْجبني الأشْياءُ ساكِنَةً
فالعمر مستبقٌ يسعى لمستبقِ
ثم يحثنا على العمل لاجتثاث عوامل الإحباط واليأس، وكل ما يعيق طريقنا نحو الرفعة والسؤدد، بقوله:
وفي الضياء أُداوي أعيناً عَمِيتْ
وفي الظلام ألُمُّ النُّورَ للحَدَقِ
ويرفض الرتابة والتكرار؛ ويدعو الى التجديد؛ بان يكون كل يوم بصيغة مختلفة، ولو بنوتة من لحن الموسيقى. ويهوى لعبة اكتشاف المجهول، وبذل الجهد من أجل الحقيقة.
وينهي شماسنة ديوانه بقصيدة تحمل خلاصة فلسفته الخاصة، ونظرته القائلة: "الشعر يمكنه إدارة أمور كثيرة، أولها علاقة رجل بامرأة لبؤة".. ويخاطب صديقه واصفاً والنبل وخصائص النبلاء والأوفياء، فيقول:
وسواي من يرضى هوان فؤاده
وسواك من يرضى المحب ذليلا
ثانياً: في المرأة والحب والوفاء المتواصل بين الأجيال:
يرى بأننا نحب النساء لأسباب عدة، آخرها: أننا "بحاجة لمن يحفظ ذكرانا بطرق غير التي تعرفها أمهاتنا.. وبذلك؛ يطلق شماسنة دعوة صريحة للحب، والزواج؛ للتناسل والتكاثر، ولتستمر الحياة، على فطرتها، بلا توقف لأن:
سيدات الروح لا يوجدن دوماً،
ثم إن العشق لا يُبعث رغما
والحب، من وجهة نظر شماسنة، يحب الإيجاز وأجمل الحب عصفور الدوري..
وعن العشق، والوجدانيات، والغرام والالتصاق بالحبيبة، والارتباك أمام طلتها، يقول:
أراك، فتجمعني رغبة باقتحام
المدى، وابتداع المحال
ويعتذر للمحبوبة عن عشقه الذي هو مفاجئ الإقلاع، مفاجئ الاتجاه.. ويواسي المحبوبة بقوله: فلا تحزني إن لم أكن كغيري، فأنت لست غيرك.. ثم يبحر بنا في قصيدة غزلية، يبدؤها باعتذاره لها؛ كون عشقه مختلف عن غيره ثم يوضح لها بقوله:
أنا أحاول أن أهواك، مرتكبا بدائعا،
غير ما قالوا، وما عرفوا
ويبقى قريباً من عالم الحب، والأمل، والجمال والوطن.. ولحفظ هذا كله من التشويه والحزن والألم، ولمقاومة حالة التآكل التي تنتاب الجمال، وللحفاظ على بيئة جميلة–تفوح علينا بعطر الأزهار؛ يداوم شماسنة على زراعة الحب ونثر بذوره في الاتجاهات كافة.
وكمحبٍ سابقٍ؛ يعترف بأنه كان مخطئا عندما صنع حريقا ملأ الكون وقلبه.. إلا أنه يعيد لنا الأمل بأن انكسار الأشرعة لا يعني عدم تمكننا من الإبحار إلى الشاطئ الآخر؛ لأن السفن لم تنكسر.. ويُبقي على جذوة الحب والأمل، بقوله:
وبنا ألفُ حنينٍ
في ليالينا مدثَّرْ
ويصيغ شماسنة معادلة متوازنة في ديوانه بأن يجدد عهد التواصل بين الأجيال. فيشدو لإبنه "عمرو"، كما يشدو لجدته.. فلجدته يقول:
غرستنا في اشتباك العمر أشتالاً
فصرنا شجراً ينطق عزما
ولفلذة كبده "عمرو"؛ يشدو واصفاً ابتسامته الجميلة، وتورد خديه، ثم يردف بتصوير انفعالاته اتجاه "أغلى ما في حياته"، قائلا:
ويرقُصُ قلْبي لِرُؤْيا تهاديكَ
مثْلَ تهادِي الأميرِ المظفَّرْ
ثم ينتظره لينطق حرفه الأول الذي يشيع أجواء الفرح والسرور في حياته:
فسُبْحانَ ربّي!!! إذا قلتَ حرفاً
فحرفُكَ شهدٌ، وثغرُكَ سكَّرْ
ثالثاً: في الوطن وعاصمته القدس والفداء:
يصف "شماسنة" تشرد شعبه ومحاولات الأعداء استئصاله من أرضه، وشطب هويته. ثم يتوجه لهذا الوطن المغتصب معاهداً بالعمل الجاد في الذود عنه، والتضحية، بالنفس والولد دفاعا عن كرامة شعبه، فيقول:
فالعمرُ فيكَ جميلاتٌ مراحِلُهُ
والموتُ أجملُ منْ أنْ يَبْلُغَ الوصْفا
حملتُ موْتي عَلى نَعْشي أردُّ بهِ
حتْفي إذا شئْتُ أن لا أقبلَ الحتْفا
ويبشرنا بأن الحق سيعود إلى أهله الشرعيين، فيقول:
أنا البشيرُ بأنَّ النُّورَ مُنْتَشِرٌ
حتى السماءِ، رفوفاً بعدمَا رفَّا
يقف شماسنة في مواجهة الظلم الذي تعرضت له فلسطين؛ تلك المحبوبة المضرجة بدمها وهي بثوب زفافها الأبيض, ويختلط دمها بحنائها..
حملتُ فلسطينَ مصلوبةً فوقَ
نفسي, أطوف بها حاضِري بعدَ أمسي
ويذكرنا بقدسية هذه الأرض التي
على بابها جعل الله باب
السموات درباً لأقدس قدس
كما يصف الوطن وأهميته في حياة الفرد، بقوله:
يا موطني، يا جراحا فيّ نازفة،
وبلسماً لشفاءٍ، كان مُفتقدا
ثم يستل شعره؛ مدافعا عنه في مواجهة الانتهازيين، والوصوليين، والفاسدين الذين يتاجرون بأوطانهم، ويخادعون شعوبهم، بقوله:
ويدَّعون إلى عينيك قبلتهم
ويرجعون مساءً للذي التحدا
وينتهي أمر هؤلاء، بحسب "شماسنة"، إلى أن ينكشف زيفهم ويزلوا عن الوجود، بقوله:
وأنت تعلم أن الريح تغسلهم
وليس تبقي، عديداً كان أو عددا
ويتوقف بنا في القدس وهي تفوح بعبق الحضارات التي مرت عليها، وشذى ذكريات الأمم التي عمرتها؛ وما حفرته في صخورها من جمال وبهاء أبدي؛ لن يزول مهما أوغل الاحتلال واستخدم قوته المفرطة في التزوير وخلق وقائعه (الكاذبة) على الأرض.. فيغني شماسنة للقدس- المكان، وللقدس-الوجدان، وللقدس-العاصمة الأبدية.. وفي كل ذلك تنتابه "رعشة"، يصفها بقوله:
وتملكني رعشةٌ تخلعُ
الحزْنَ، والصَّدْرُ يعرفُهُ موقَدا
ويصف العصر الذي نعيشه بعصر الانحطاط؛ مما جعل القدس تستغيث بالأمة التي لا تستجيب لنداءاته ولا لصرخاته، مثل:
ومئذنةً، تستغيث بأمجادنا
أنْ تعيشَ وأن تصْمُدا
كما يخصص لها قصيدة بعنوان: "العاصمة المقدسة"، ليصف، بأجمل العبارات والأبيات، حالة الصراع على القدس بين المغتصب الذي يسعى لتشويهها وإشاعة أجواء القهر والقتل والعهر في جنباتها، وبين من بنوْا فيها حضارات تشكل نموذجاً، حياً، لعبقرية الإنسان في الزمان والمكان، ومما يقوله:
مهيبةٌ، مثْلَ وجه أُمّي
بهيةٌ مثْلَ فجْرِ يوْمي
ثم يدعوها للصبر إلى أن يأتي الفرج القريب، بقوله :
ولمْلِمي الصّبْر منْ جِراحي
وهدْهِدي الرُّوحَ إذْ تَلُمّي
كما أن فلسطين لا تزال تنادي أبناء الأمة الذين ينطبق عليهم قول: لا حياة لمن تنادي, بقوله:
فقامت تنادي على عاشقيها
نداءَ الغَريقِ لصمٍّ وخُرْسِ
إلا أن شماسنة ينهض ويدعونا للنهوض معه، والانتفاضة على هذا الواقع المؤلم، للعودة لأيام البطولة والفداء، فيقول:
أنا النسر، في قدسِكِ الرَّحْبِ أعْلو
وأَقْصِدُ بابَ الفَضا سيِّدا
وفي هذا المقام؛ يذكرنا بسمو الروح القومية-العروبية التي نحلم بها.. فيصف واقع الأمة، وما هي عليه، من قوة مفتتة، وكثرة مشتتة.. في حين أن حاجة العربي للعربي كحاجة الإنسان للماء؛ ولا شيء غير الماء العذب الصافي يروي العطش.. ويعبر عن ذلك شعراً، بقوله:
لأنك أنت أخي العربي؛
ربيبُ الديارِ وربُّ الحمى
كما يصف فقدان الأمة لما فُطِرَت عليه من نخوة، وعزة، وكرامة لتستبدل بالقتل والمزيد من القتل.. فيقول:
وتسألُني نَخْوةُ الأكرمينَ عنِ
الموتِ كيفَ اغتدى موسما
ولم ينسَ شماسنة الأثر السلبي-المدمر لمخزون منطقتنا من النفط ومصادر الطاقة. فالصحراء بمخزوناتها من أشواك يمضغها (شماسنة) لتخرج نفطاً اسوداً.. وكم هو جميل؛ عندما اعتبر النفط نقمة على امتنا التي (يذرف) فقراؤها الدموع من شدة الجوع والألم.. مستشهداً بالعراق الذي يتلوى أطفاله ألماً؛ وهم يبحثون عن (رضعة) حليب في بلد الثروات الطائلة؛ فوق الأرض وتحتها.. كما يُجمِلُ حال عرب النفط، وما أوصلوا الأمة إليه من هوان، بقوله :
يا أيها العربي المستباحُ دماً
بين العواصم، لا ثار ولا نِقَمُ
يا أيها الوطنُ المصلوبُ من قِدَمٍ
بين القبائلِ، والثاراتُ تضْطَرِمُ
ويصف الرجال الأشداء؛ القادرون على تحدي الصعاب، وقهر عوامل الإحباط التي تحتاج الأمة وإعادتها إلى مكانتها كأمة مجيدة, فيقول:
أيها السائرون للفجر سعياً
رغم أنف الدُّجى ورغم السُّبات
أرجعونا إلى الأمام فقدْ
ضُيِّعَتِ الوجْهَتان في الظُلُماتِ
ويحرض شرفاء الأمة على أن يأخذوا الأدوار المنوطة بهم؛ دفاعاً عن حمى الوطن المستباح، بقوله:
يا صاحب النور، أسرعْ نحوَ وِجهتِنا
لأجلِ مَقْدسنا يسعى لك الأَلَقُ
ثم يصدر بيانا يعتذر فيه للوطن، ويعتذر منه، ومن أنفسنا.. واعداً إياه بالوحدة والتماسك والتعاضد على طريق التحرير، فيقول:
لنا بحبِّكَ شرْعٌ ليسَ يدْرِكُه
ذئبٌ يناوِشُنا، والحبُّ والملل
لا تنتَظِرْ منْ ذئابِ الأرضِ موعظةً
عن حبِّنا لَكَ، بينَ الحمْقِ والخَطَلِ
وللأصدقاء الداعمين لقضيتنا، والمؤمنين بحقنا في العيش الكريم على أرض الآباء والأجداد، نصيب في ديوان شماسنة، إذ يقول:
والضَّارعينَ معي، من كلِّ معتنقٍ
للحقِّ مصْطبرٍ، بالحقِّ مُعْتَصِمِ
رابعاً: في الشهداء العظماء:
يشدو شماسنة للشهداء والقادة العظماء.. فيرى فيهم، ومن خلالهم، البدايات والنهايات، بما يمكن أن نطلق عليه ثنائية الشهيد–الأرض، فيقول:
البداياتُ: ارتواءُ الأرضِ منْ
دمكم، يا ظهرها تلك البداياتْ
والنهاياتُ، انتشاءُ الصَّخْرِ من
لحمِكُم، يا طَعْمَها تلكَ النهاياتْ
ويتوقف بخشوع وإجلال أمام نموذج من الشهداء أسماه: "القائد الذي ترجل" بقوله: "ربما كان بعض الرجال رجلا من امة، ولكننا نعرف أن بعضاً آخرين أمة في رجل". ثم يشدو لهم شعراً، فيودعهم بقوله:
وداعاً، ومنْ حُزْنِ الرِّجالِ قوافلُ
لها في صُدورِ الشّامتينَ معاوِلُ
ولهذا الشهيد-النموذج سمات وخصائص، وثَّقها شماسنة لتبقى أنشودة؛ تتغنى بها الأجيال القادمة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ليُبقي على سِيَرِ الشهداء رموزاً تضئ المظلم من الطريق، ويبث في الأجيال روح الأمل والعزيمة؛ باختيار النهايات الشجاعة-المشرفة، وليس الاستسلام والانهيار أمام قوة الأعداء وجبروتهم:
أرادوك مولاهم، وأنتَ وليُّنا
وقد بيَّتوا أمراً، وغالتْ غوائِلُ
ثم يميط شماسنة اللثام عن القائد الذي يعني، فيكون ذلك القائد الذي أراد له الأعداء أن ينتهي قتيلاً أو طريداً أو شريداً، فقضى كما أرادها هو: شهيداً، شهيداً، شهداً.. إنه القائد الرمز الشهيد ياسر عرفات:
وأنتَ شهيدُ الصَّبْرِ، رغمَ انكِسارِه
إذا غابَ فجرٌ أوْ تعاظَمَ باطلُ
وأما النتائج التي خرج بها شماسنة، وهو في حضرة الشهداء، فهي انه على الأحياء أن يستمروا في التحدي، بالرغم من الواقع المتردي؛ لكي يحطموا القيد بأسنانهم المكسرة، وشفاههم المتآكلة.. ويعتذر للشهداء عن تقصيرنا عن الوفاء لدمائهم، بقوله:
اغفروا، أنّا أقمنا بعدكُمْ،
نطحن المرَّ، وننسى الابتساماتْ
تعقيب
هذه هي قراءتي لديوان إياد شماسنة التي استغرقتني ساعات طويلة.. فكنت أقرأ وأعيد القراءة.. أتمعن وأعيد التمعن؛ دون كللٍ أو ملل، لماذا؟
لأنه مشبع بالرمزية وتطويع المفردات.. الأمر الذي جعلني أمام لوحة رائعة-جميلة؛ بحاجة إلى تفكيك ألوانها والتعرف عليها في جو من المتعة والسرور، كقوله: ربنا نحن الذين ينخلون البحر، والقهر، والنهرَ، بحثاً عن معدنٍ يصنعون منه باباً أو محراثاً..
لأن قصائده تعبر عن الصراع القائم يبين الخير والشر على هذا الكوكب.. الصراع القائم بين الساعين للحفاظ على البيئة وبناء حضارة واعدة للأجيال القادمة، ويبين من يسعى لصناعة الموت وتطوير أدواته الشريرة.. وأنموذج هذا الصراع فلسطين (المغتصبة) رمزاً للحب، التي يناجيها شماسنة بقوله:
يا أُمَّنا يا فلسطيني، وسيدتي
وقِبْلَةَ العين، في صحوي، وفي حُلُمي
لأنني في كل مرحلةٍ كنت أنهل منه ما يريح البال ويسر الخاطر من مفاهيم، وأفكار توثق للوطن، وللهوية، وتحث على الوفاء للحبيب، والتضحية دفاعاً عن القيم النبيلة والمبادئ الوطنية والإنسانية..
لأنني وجدتُني أمام شاعرٍ-فيلسوف لا يقبل إلقاء الكلمات على عواهلها؛ بل يدرك ماذا يكتب، ولمن يكتب، وعن ماذا يكتب، وحول ماذا يكتب..
لأنني وجدتُ في كل ما يكتب رسائل لا بد من التوقف عندها بالقراءة والتحليل، والتفسير لتقديمها للقارئ الساعي لامتلاك الثقافة بأبعادها المعلوماتية والمعرفية والتنموية والقيمية؛ سياسياً، ووطنياً، واجتماعياً..
لأنني وجدتُ تلك الرسائل مشبعةٌ بالقيم، والمثل العليا، والوفاء للحبيب وللصديق.. الوفاء للآباء والأجداد وأجداد الأجداد.. الوفاء للزوجة التي تعطي الحياة طعماً خاصة، ونكهة لا يعدلها شئ في هذه الدنيا.. الوفاء للإبن يخطو خطوته الأولى، وينطق حرفه الأول.. الوفاء للأبناء، وللأحفاد، ولأحفاد الأحفاد.. وفوق كل ذلك الوفاء للشهداء، والقادة العظماء الذين حفروا في صخور الوطن ما يجمع كل هذه الأشكال من الوفاء..
إنه ديوان "التاريخ السري لفارس الغبار" الذي لا يُشَقُّ له غبار..
عزيز العصا/ فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 14/آيار/2013م
نُشِرَ في القدس، بتاريخ: 24 آيار، 2013م، ص21
إرسال تعليق Blogger Facebook