"أحمد عبد الرحمن"؛ قائد فلسطيني.. عرفناه (في طفولتنا) المبكرة؛ وهو يهتف لفلسطين عبر الأثير المحاصر من كل حدب وصوب.. عرفناه (في شبابنا) وهو يجوب الأمصار والأقطار؛ مدافعاً عن قضية شعبه العادلة.. عرفناه في كل الحقب؛ مفكراً، محللاً، قارئاً لما بين السطور..
والآن؛ سوف نتعرف عليه وقد وضع "عصارة" تجربته تلك، بما لها وما عليها، لكي تبقى ملك الأجيال القادمة من أبناء فلسطين وأبناء الأمة، والانسانية المكتوية بنيران الظلم والظالمين أينما حلوا وارتحلوا على وجه هذا الكوكب.. إنه كتابه المعنون بـ ""عشت في زمن عرفات". هذا الكتاب الصادر عن دار الحرية للثقافة الوطنية/ رام الله/ فلسطين، الواقع في (449) صفحة من القطع المتوسط، تتوزع على (28) فصلاً لكل منها عنوان يتحدث عن نفسه.
تربض صفحات هذا الكتاب بين غلافين: فأما الأول؛ فيحمل رسماً لياسر عرفات يختزل العقود الثمانية التي عاشها؛ وهو يهتف لفلسطين ولفلسطين فقط، وأما الغلاف الثاني؛ فيحمل وداعاً للقارئ؛ كأمانة ينقلها إلى الكل الفلسطيني.
لكل فصلٍ من فصول الكتاب نقطة ارتكاز، تعبر عن وجهٍ من أوجه المأساة التي حلت بشعبنا خلال العقود السبعة الأخيرة. ونظراً لضيق الوقت وضيق المجال؛ فقد ارتأيت التوقف، معمقاً، قدر الاستطاعة عند الفصل الأخير؛ للإجابة على سؤال: "هل أضاع أبو عمار فرصة السلام؟". علماً بأنني، ومن خلال قراءتي الشاملة للكتاب، وجدت أن هناك ما هو مشترك بين فصول الكتاب جميعاً؛ ولا يختص به فصل دون غيره، منها:
أولاً: تقنيات السرد: حيث جاء الكتاب وفق تقنيات للسرد والتعليق والتحليل مشبعة بالتشويق، المتمثل بالانتقال (السلس) من موضوع إلى آخر، بما يجذب القارئ الذي لا يزيغ بصره إلا وقد اكتملت الفكرة ووصلت كما أرادها الكاتب.
ثانياً: الموضوعية والوضوح: يتجول "أحمد عبد الرحمن" بالقارئ بين ثنايا المواضيع، ودهاليزها، بحلوها ومرّها، وهو يشير إلى التناقضات التي مرت بها الثورة الفلسطينية، على مدى الأربعين سنة التي يغطيها الكتاب، دون أن يحاول إخفاء الحقائق على الشعب الفلسطيني. فيشير إلى مواطن الضعف والقوة، البؤس والفرح، الاختلاف والاتفاق، المؤامرات والأفعال الصادقة، تخاذل العمق العربي وتضحياته دفاعاً عن فلسطين وشعبها. وقد التفت "أحمد عبد الرحمن"، في هذا كله، إلى كيفية حماية القارئ من الشعور باليأس والقنوط؛ وإنما كان يذكرنا، في كل مرة، بأنه هذا هو حال الثورات التي يتعدد أعداؤها ويقل أصدقاؤها، وأن ثورتنا ترى شعاعاً في آخر النفق؛ لا بد من الإمساك به، كما أنها كانت تحظى بقائدٍ له حضوره وقدرته العالية على القفز فوق الأمواج دون أن يغرق و/أو يُغرق.
ثالثاً: حيادية الكاتب: رغم أن "أحمد عبد الرحمن" جزء رئيسي من المشهد وأحد أهم مكوناته، إلا أنه حرص، ككاتب، أن يكون حيادياً في الغالبية العظمى للمشاهد التي أوردها، في أجواء من الابتعاد عن الإدعاء الذي يمارسه بعض كُتّاب السِّيَر الذاتية؛ عندما يُنَصِّبون من أنفسهم أوصياء على المرحلة، ويدعون أن آراءهم التي لم يُؤخذ بها، كانت هي البلسم الشافي، وأن آراءهم التي أُخذ بها هي التي أعادت الروح إلى المشهد. أما كتاب "أحمد عبد الرحمن" هذا فيمكن القول أنه كان وثيقة؛ تصف الأحداث بنكهة عصير البرتقال الطبيعي؛ الخالي من الصبغات والكيماويات الضارة. وكأني بـ "أحمد عبد الرحمن" يدعو القارئ إلى أن يضع بصمته الخاصة وفق فهمه الخاص به.
رابعاً: المحافظة على رمزية القائد: في جميع فصول الكتاب؛ حافظ "أحمد عبد الرحمن"، على رمزية ياسر عرفات و"كاريزميته" التي كان لها، في جميع مراحل كفاحه، الأثر الأكبر في الخروج من المآزق المتتابعة والمتتالية؛ التي لم تتوقف لحظة، والتي كان أسوأ أشكالها ومستوياتها تلك التي يتلاحم فيها (الشقيق!!) ممثلاً بنظام حافظ الأسد، مع العدو ممثلاً بإسرائيل وأمريكا التي "تعتبرها مركز الكون".
فأينما ورد ذكر ياسر عرفات وجدنا "أحمد عبد الرحمن" يأخذ دور الجندي المنضبط أمام قائده وهو يحفظ له مهابته، محيطاً قائده بسياج متين-متماسك يحصر مساحة خاصة به تتسع لقراراته السريعة والخاطفة عندما كان يدلهِمّ الخطب وتكاد تبلغ القلوب الحناجر؛ هذه المساحة التي لم يسمح الكاتب لنفسه و/أو لغيره اقتحامها والعبث فيها، حتى لو كانت (خاطئة) من وجهة نظره ونظر الأغلبية العظمى للقيادة؛ مثل: قرارات ياسر عرفات بشأن الوقوف إلى جانب العراق في "أم المعارك"، الاستمرار في المفاوضات التي كان يقودها د. حيدر عبد الشافي بعد مؤتمر مدريد وتوقيع اتفاقية أوسلو.
خامساً: يوثق للأحداث الكبرى التي مرت بها القضية الفلسطينية: لقد تطرق "أحمد عبد الرحمن" في كتابه إلى مسلسل الأحداث التي مرت بها القضية الفلسطينية، والتي شاهدها هو شخصياً، أو شارك فيها كإعلامي وكسياسي؛ فوصف "حرب أيلول" المشئومة بين "الفدائيين الفلسطينيين" والجيش الأردني؛ التي انتهت بمغادرة الفدائيين للأراضي الأردنية؛ وخسارة المواقع المتقدمة للاشتباك المباشر مع العدو، كما تطرق إلى زيارة السادات لـ "إسرائيل" التي قال فيها ياسر عرفات "الآن ضاعت فلسطين"؛ والحرب على العراق التي أخرجته من معادلة الصراع، مروراً بمؤتمر مدريد، ومفاوضات واشنطن، ثم اتفاقية أوسلو لينتهي عند الخديعة الكبرى المتمثلة بـ "إيهود باراك"؛ وما جرى في كامب ديفيد، إلى أن قضى ياسر عرفات شهيداً.. شهيداً.. شهيداً.
سادساً: أخيراً؛ يتساءل "أحمد عبد الرحمن": هل أضاع أبو عمار فرصة السلام؟
شكّل هذا السؤال الفصل الأخير من الكتاب، الذي ارتأيت التوقف عنده، معمقاً؛ بالقراءة والتحليل، لعلّنا (نجتهد) بإجابة شافية على هذا السؤال/ التساؤل. فالقارئ لهذا الكتاب، بشكل عام، وللفصل الأخير منه بشكل خاص، كما الكاتب نفسه؛ يشعران بالضيق والألم والغيظ والقهر عند المرور بكل مفردة فيه؛ لما فيه من حقائق مرّةٍ، أكثرها إيلاماً (مسلسل) التنازلات الذي ابتليت به القضية الفلسطينية، وما يقابله من جحود المغتصب للأرض؛ وعدم رضاه عن تلك التنازلات التي جاءت في ظروف مأساوية، من أبرز ملامحها: غياب و/أو تغييب العمق العربي، واستبعاده من معادلة الصراع، والاصطفاف (اللامحدود) من الغرب والشرق مع "إسرائيل" التي تشكل رأس الحربة للمشروع الاستعماري في المنطقة.
أما المواضيع التي يضعها الكتاب تحت الضوء، فهي:
أولاً: الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران-1967:
فقد تبنى ياسر عرفات "إقامة دولة فلسطينية على 22% من فلسطين التاريخية" وعلى هذا الأساس أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في 15/11/1988 قيام دولة فلسطين. أما الأسباب والظروف الموضوعية التي جعلته (يستقر) عند هذا المطلب، فيراها "أحمد عبد الرحمن" كما يلي:
منذ قرار التقسيم في العام 1947، حظيت إسرائيل بالاعتراف الدولي، وأما فلسطين فقد سقطت من التاريخ ومن الجغرافيا في رمال الشرق الأوسط. وحتى لا تبدو مطالبة مستحيلة التحقيق أعلن أبو عمار أنه يريد قيام دولة فلسطينية في حدود عام 67 وليس حدود عام 47، مقابل أن تنفذ إسرائيل قرارات مجلس الأمن الدولي بالانسحاب من الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة في عام 1967 وحل قضية اللاجئين وفق القرار 194 الخاص بحق العودة.
التوجهات الفلسطينية، الشعبية والتنظيمية، نحو القبول بـ "إسرائيل" ككيان على أرض فلسطين، منها:
1) إصدار "فتح" فكرة الدولة الديمقراطية عام 1969؛ كأول اعتراف فلسطيني بوجود اليهود في فلسطين، حيث يعيش أتباع الديانات السماوية الثلاث في دولة ديمقراطية علمانية واحدة.
2) كما أصدر فاروق القدومي وثيقة سياسية بعنوان: "إقامة السلطة السياسية في الضفة والقطاع.
3) صدرت أصوات في إسرائيل (مثل: اريه الياف) وفي فلسطين (كالمحامي عزيز شحادة) تدعو إلى الحل السياسي الواقعي والعملي منذ البداية.
4) أقر المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السادسة في حزيران 1974، وبعد حرب تشرين، برنامج النقاط العشر الذي أقر لأول مرة إقامة السلطة الوطنية على الأراضي المحتلة عام 1967.
5) بعد أن دخل أبو عمار الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني 1974، وسط ترحيب وتصفيق، عادت القضية الفلسطينية إلى الحياة؛ فصدر قرار الجمعية العامة 3236 الذي أكد على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وحقه في تقرير المصير، وحق اللاجئين في العودة.
في 15/11/1988، أعلن أبو عمار عن منبر المجلس الوطني في الجزائر قيام دولة فلسطين في حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وكان يستند إلى الانتفاضة الأولى التي أثارت اهتمام العالم.
جموح الأعداء، بما يمتلكون من عناصر القوة، حيث صرح دايان القول: "إن حدود إسرائيل مع مصر هي قناة السويس، ومع الأردن حدودها نهر الأردن.
بدأت الثورة الفلسطينية (رحلة!!) التراجع والانحسار منذ أيلول/1970؛ الذي شهد خروج الفدائيين من الأردن ووفاة جمال عبد الناصر، وسيطرة حافظ الأسد على الحكم؛ حيث منع العمل الفدائي، ثم تبادل نظامه الأدوار مع إسرائيل طوال 12 عاما حتى تمكنا أخيرا من تقاسم النفوذ في لبنان، وطردا الثورة الفلسطينية (في العام 1982).
ثانياً: من مدريد إلى واشنطن: بعد أن غادر الاتحاد السوفيتي الخانة التي كان يشغلها لصالح القضية الفلسطينية (إلى حدٍ ما) في معادلة الصراع في الشرق الأوسط، وبعد الكارثة التي حلت بالعراق وشعبه وجيشه في العام 1991، أعلن الرئيس جورج بوش-الأب قيام "النظام العالمي الجديد" ودعا إلى "مؤتمر مدريد" حيث اعتبرت م. ت. ف "منظمة إرهابية"؛ لا يمكن قبول مشاركتها فيه.
هنا؛ بدأت مرحلة "عض الأصابع" بين أمريكا وربيبتها إسرائيل من جانب (حيث سعوا إلى استبدال المنظمة بوفد فلسطيني)، ومن جانبٍ آخر؛ رفع أبو عمار شعار: "كل فلسطيني يمثلني وكل فلسطيني عضو في المنظمة"، فكانت النتيجة النهائية أن الوفد الفلسطيني خاض "مفاوضات واشنطن" وهو يأتمر بأوامر ياسر عرفات وتوجيهاته مباشرة، ولا يخرج عنها قيد أنملة.
هنا؛ استعرض "أحمد عبد الرحمن" ذلك الماراثون التفاوضي الذي كان يمثل "إسرائيل" فيه "روبنشتاين" المنتمي إلى أكثر الأحزاب الدينية الإسرائيلية تطرفا ويمينية، ويرفض التنازل عن أرض إسرائيل-أرض الميعاد وأرض الآباء والأجداد، وقد عبر "روبنشتاين" عن آرائه صراحة في حواره مع الوفد الفلسطيني عبر الجولات العشر للمفاوضات التي انتهت بالفشل، ومما صرّح به علانية:
- ليس هناك وضوح في وجود شعب فلسطيني، وضرب مثلا عن مطلبنا بالاستقلال بوضع الأكراد في العراق. وقال: الاستقلال العرقي ليس بالضرورة أن يؤدي إلى استقلال سياسي.
- هناك موقف إسرائيلي يهودي موحد بأن القدس عاصمة دولتنا (اسرائيل) الأبدية، وهيس خارجة عن أي نقاش معكم.
- قرار 242 لا ينطبق على هذه المفاوضات.
- الدولة الفلسطينية المستقلة خطر مميت على حياتنا ووجودنا.
- إن لليهود حرية السكن في أي مكان في أرض إسرائيل، والقرار 194 لا يمكن بحثه، وإعادة التاريخ إلى الوراء شيء مستحيل.
- أقصى ما فكّر فيه "روبنشتاين" أن يمنح الفلسطينيين "صلاحية بلديات تحت الاحتلال".
ثالثاً: أوسلو-المفاجأة:
1) في العام 1992، تحرك أكاديميون إسرائيليون لجس نبض م. ت. ف ومدى استعدادها للمفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي يرأسها إسحق رابين، فظهر ارتياح فلسطيني لمفاوضات مع حكومة إسرائيلية، تعترف بالمنظمة، مما سيفضي إلى حل سياسي وتعترف إسرائيل، في النهاية، بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وقد استهل رابين هذه المرحلة بـ (120) سؤالاً وجهها لقيادة المنظمة؛ يبدو أنها كانت هي الوقود الذي أُنضِجَت عليه "اتفاقية أوسلو" الشهيرة؛ التي فاجأت القاصي والداني ممن له شأن بالقضية الفلسطينية.
2) من الفلسطينيين من أُسقط في يده، من بينهم "أحمد عبد الرحمن" نفسه، حتى أن عدداً من الفدائيين، من بينهم مرافقين لأبي عمار، تركوا القوات وطلبوا اللجوء السياسي إلى أوروبا. وفي هذا الجانب يصف "أحمد عبد الرحمن" مشاعره اتجاه ذلك الاتفاق كما يلي:
- الاتفاق يخلو من الكلمات السحرية التي قضينا كل هذه السنوات من أجل نقلها من عالم الأحلام إلى أرض الواقع؛ فلم أجد كلمة الانسحاب، ولم أجد اقتلاع الاستيطان، ولم أجد قضية اللاجئين، ولم أجد القدس؛ بل وجدت في اتفاق أوسلو أن هذه الكلمات –الأهداف- قد أبعدت تحت عنوان "قضايا الوضع النهائي"، ويجري التفاوض حولها بعد مرور سنتين من الفترة الانتقالية المقررة بخمس سنوات.
- في هذه الحالة من الإرباك الداخلي، رحت أغرق في صمت عميق أمام أجهزة الإعلام وأنا مسئول الإعلام، والناطق الرسمي باسم المنظمة، ورئيس تحرير المجلة المركزية "فلسطين الثورة". ولا أجد ما أقوله دفاعا عن هذا الاتفاق.
- إلا أن ثقتي المطلقة بوطنية أبو عمار، تفرض عليّ احترام قرارات هذا الرجل في هذا الوضع الصعب، حيث المنظمة تعاني من حصار خانق سياسي ومالي.
رابعاً: أوسلو-الخدعة: يقول "أحمد عبد الرحمن" : "لا أدعي أنني قد أدركت سلبيات ونواقص اتفاق أوسلو، بينما أبو عمار لا يرى هذه السلبيات والنواقص". مما يعني أن ياسر عرفات كان يدرك سلبيات أوسلو ونتائجها الكارثية على القضية الفلسطينية.
ويرى "أحمد عبد الرحمن" أن عملية السلام، بقيادة رابين وأبو عمار، حققت نتائج ايجابية للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، إلا أن اغتيال رابين في 4/11/1995، وضع حدا لأي تقدم مستقبلي؛ حيث وقعت "إسرائيل" في قبضة اليمين؛ فلم يصل إلى الحكم فيها رئيس وزراء يؤمن بالسلام، وبالحل التاريخي للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. حتى إيهود باراك؛ خليفة رابين في حزب العمل، كان خديعة كبرى، إذ أن فوزه في العام 1999 كان الحاضنة التي مهدت الطريق أمام اليمين الإسرائيلي، كما هيأ المسرح أمام شارون لفرض الحصار على أبو عمار في المقاطعة في رام الله لمدة عامين.
هكذا؛ بقي أبو عمار وحده طوال (9) سنوات يحاول حماية عملية السلام، في مواجهة قوى اليمين الإسرائيلي التي حكمت إسرائيل، منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.
خامساً: كامب ديفيد.. من الذي أفشله:
يرى "أحمد عبد الرحمن" أن "إيهود باراك" دمر عملية السلام قبل أن يتوجه إلى كامب ديفيد؛ حين أطلق العنان للمستوطنين، وحين رفض تنفيذ الانسحابات المقررة في مذكرة "واي ريفر".
أما بشأن الاتهامات القائلة بأن المرحوم ياسر عرفات هو من أفشلها، فإن "أحمد عبد الرحمن" يوضح للتاريخ مجموعة من الحقائق التي لا يمكن تزويرها إلى الأبد، وهي:
1) إن إسرائيل، بقيادة غلاة اليمين ليست مستعدة لقيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس (الشرقية) عاصمتها، أي في جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في العام 1967. ويعزز ذلك عروضات "إيهود باراك" ومطالبه المتمثلة بـ:
• ضم 10 -13% من أراضي الضفة لإسرائيل.
• سيطرة دائمة على غور الأردن.
• سيادة إسرائيلية على القدس.
• إعطاء ممر للفلسطينيين للوصول إلى الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية.
• السيطرة الكاملة على الأحواض المائية.
• بشأن قضية اللاجئين؛ ترفض إسرائيل القرار الدولي 194 الخاص بحق العودة، ولا تتحمل أية مسؤولية سياسية أو أخلاقية عن مأساة اللاجئين. وكل ما تستطيع تقديمه هو المساهمة في صندوق دولي لتعويض اللاجئين عن وطنهم وبيوتهم وأملاكهم التي استولت عليها إسرائيل.
• ظهر هيكل سليمان وكأنه حقيقة مادية مجسدة على الأرض.
2) الدولة الفلسطينية المستقلة التي توافق عليها إسرائيل "دولة منزوعة السلاح.
3) كلينتون، استخدم مصطلح: "دولة محدودة التسليح"؛ لديها (فقط) قوة شرطة، ويخضع وضعها الأمني لمراقبين دوليين للتحقق من تطبيقها لهذا الاتفاق؛ لتبقى دولة منزوعة السلاح.
4) أقصى ما قدمه كلينتون 95% من أراضي الضفة، وبعض هذه النسبة يخضع للتبادل بالقيمة والمثل، وبعضه الآخر للاستئجار لمدة 99 عاما. والأراضي التي (تبرع) كلينتون بضمها لإسرائيل ستضم أكثر من مائة ألف فلسطيني وقراهم وأراضيهم لإسرائيل.
5) تصر إسرائيل على فتح شارع بين القدس ونهر الأردن؛ يقسم الضفة الغربية إلى قسمين، مقابل الممر الآمن بين الضفة وغزة.
6) في حال بقاء الكتل الاستيطانية الأربعة تكون الضفة الغربية مقطعة الأوصال بين شمالها ووسطها وجنوبها. وهذا كله لا علاقة له بمستوطنات القدس، التي عزلت القدس الشرقية عن محيطها عزلا تاما.
7) اعتبر باراك، ومن ورائه كلينتون أن فرض هذا الحل الإسرائيلي على الفلسطينيين هو التطبيق والترجمة الوحيدة لقرار مجلس الأمن 242، وبالتالي، ينهي الصراع ويسقط أية مطالب فلسطينية في المستقبل.
8) بالمقابل؛ كان أبو عمار، ومعه كل الفلسطينيين والعرب، يعتقدون أنهم قد قدموا الثمن المطلوب، وهو الاعتراف بدولة إسرائيل، مقابل قيام الدولة الفلسطينية على 22% من مساحة فلسطين التاريخية، وسيطرة إسرائيل على 78% علما بأن قرار التقسيم 181 يعطي دولة فلسطين 44% ودولة إسرائيل 46% و 10% لتدويل منطقة القدس. وقد توجه أبو عمار إلى كامب ديفيد وهو مؤمنٌ بهذه الحقيقة التي لا تقبل النقاش ولا المساومة.
9) الموقف الذي عبر عنه أبو عمار في كامب ديفيد يقوم على ضرورة اعتراف إسرائيل بحق العودة وبمسؤوليتها الأخلاقية والسياسية.
10) في مواجهة المآزق المتعلقة بـ (الادعاءات) والمعتقدات الدينية؛ وافق أبو عمار على ما يلي:
• يكون حائط المبكى وحارة اليهود وأجزاء من الحي ألأرمني يتبع السيادة الإسرائيلية، مقابل موافقة باراك على السيادة الفلسطينية على المسجد الأقصى والمقدسات المسيحية والإسلامية، وكل القدس الشرقية التي احتلت عام 1967. وقد رفض باراك هذا العرض، علماً بأن أبو عمار أبو عمار حتى لا تنهار عملية السلام.
• بالنسبة للمستوطنات؛ اشترط أبو عمار ألا تزيد عملية تبادل الأراضي من 2-3% على أن تكون بالقيمة والمثل، وأن يتم مقابل ذلك إخلاء المستوطنات والبؤر الاستيطانية خلال ستة أشهر وليس خلال ست سنوات.
• حول عقدة الأمن الإسرائيلية؛ وافق أبو عمار على تواجد قوات دولية أو أميركية في غور الأردن، وحتى على الخط الأخضر. وقد رفض باراك ذلك. بالمقابل؛ وافق أبو عمار على ثلاث مراكز للرادار للإنذار المبكر ولكن مع وجود ضابط ارتباط فلسطيني.
سادساً: ماذا بعد..؟
يرى "أحمد عبد الرحمن" أنه في ظل تواطؤ أميركي وصمت أوروبي وغياب عربي يجلله العار، لا يبدو في الأفق أن إسرائيل بهذا الموقف الأميركي، مستعدة للتوقف عن ابتلاع الأرض الفلسطينية، في مقدمتها القدس، وإنكار حق الشعب الفلسطيني في الوجود في وطنه فلسطين في دولة مستقلة وذات سيادة سواء في ظل ياسر عرفات أو محمود عباس.
أما "مستقبل إسرائيل"، كما يراه "أحمد عبد الرحمن" فهو: إما الاندماج أو إلى زوال؛ لأن أرض فلسطين هي للفلسطينيين لكي يعيشوا عليها بحرية وكرامة، وأن الاستمرارية والديمومة، على هذه الأرض، هي للشعب الفلسطيني.
سابعاً: المطلوب منا وطنياً:
يرى "أحمد عبد الرحمن" أنه أمام هذا المأزق، الذي يهدد وجودنا الوطني، فإن النتيجة التي يمكن استخلاصها من هذه الدراما الطويلة للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي أن إسرائيل، التي تتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني في أي جزء من أرض فلسطين التاريخية، تعتبر في الإستراتيجية الأمريكية "مركز الكون". وبدون أن تتغير هذه الرؤية الأميركية فلن يتحقق السلام في فلسطين. الأمر الذي يتطلب منا القيام بما يلي:
أ. علينا أن نتمسك بالإنجاز التاريخي الذي حققه ياسر عرفات؛ عندما أعاد فلسطين إلى وضعها الطبيعي حقيقة راسخة من حقائق الشرق الأوسط. حقيقة أبدية غير قابلة للزوال، فلا عودة إلى الوراء، والتقدم إلى الأمام حتمي.
ب. الحفاظ على السلطة الوطنية وتعزيز دورها وطنيا ودوليا. فالسلطة تحظى بالاعتراف العربي والدولي. والسلطة على الأرض تجسد الكيان السياسي للشعب الفلسطيني في طور التكوين، وصولا إلى قيام الدولة المستقلة. أما منظمة التحرير الفلسطينية فتبقى ضرورة وطنية، وهي الوطن المعنوي والممثل الشرعي للشعب الفلسطيني.
ت. تعزيز ظاهرة "عزلة إسرائيل" التي أصبحت "دولة منبوذة"، فمنذ خطاب أبو عمار في الأمم المتحدة عام 1974 وحتى خطاب أبو مازن في أيلول 2011، اشتدت عزلتها؛ لتنكرها لحقوق الشعب الفلسطيني واستمرارها في احتلال أرضه، وخروجها السافر ضد قرارات الشرعية الدولية.
أخيراً؛ للقارئ كلمة..
بعد هذه القراءة –المستفيضة- لكتاب "عشت في زمن عرفات" نجد أن كاتبه "أحمد عبد الرحمن" قد أطلق صرخة مدوية باتجاه المراجعة الموضوعية لما جرى في سالف الأيام وغابرها. مراجعة تجعلنا نعلن، للعالم أجمع وللأجيال القادمة؛ التي ستحمل وزر المرحلة القادمة، أن التنازلات التي تُقدم للحكومات الإسرائيلية المتتابعة لن تجعلهم يزيحون "قيد شعرة" عن نواياهم في ابتلاع فلسطين التاريخية، بالتمام والكمال، وحدودها كما عرّفها دايان المذكور أعلاه. وعلى هذه القاعدة يردون على أي (نداء) سلام، كما جرى في زيارة بابا الفاتيكان لفلسطين مؤخراً (أيار/2014)، بالمزيد من المستوطنات والمزيد من المستوطنين على أرض فلسطين التاريخية، والمزيد من الإنكار لحقوق الشعب الفلسطيني، بل لوجوده على هذه الأرض.
أما الاتفاقيات الموقعة مع أيٍ منهم؛ فلن تجد من يصونها منهم، مصداقاً لقوله تعالى: "أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم" (البقرة: 100).
وعليه؛ فالمطلوب، على المستوى الوطني، التلاحم والتعاضد والوحدة للمحافظة على الثوابت التي قضى قادتنا دفاعاً عنها، وعلى رأسهم الشهيد الرمز ياسر عرفات، وهي: الدولة (بعاصمتها القدس)، والعودة، وتقرير المصير بالإضافة إلى تحرير الأسرى وإعادتهم إلى حضن الوطن الذي ضحوا دفاعاً عنه. كما يجب التوسع في العلاقات الدولية التي تسهم في فضح الاحتلال ومخططاته، وتسهم في تعزيز عزلته؛ لنقل صورته من صورة الدولة الديمقراطية، إلى صورة الدولة المنبوذة" التي تمارس أشرس احتلال في التاريخ المعاصر.
عزيز العصا/ فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 8 حزيران، 2014
نُشِرَ في القدس، بتاريخ: 21/06/2014م، ص21
إرسال تعليق Blogger Facebook