لا أعتقدُ بأن هناك عاقلاً بالغاً من بني البشر لم يسمع عما يجري في غزة منذ ثلاثة أسابيع.. فكل دقيقة مرت علينا منذ ظهيرة آخر سبت في العام 2008م، بل كل ثانية قد شهدت على "مشهد ما" غير مسبوق؛ فيه من القتل البشع، والتشريد، والتهجير وإعادة التهجير ما لا يمكن محوه من الذاكرة.. ففي المشهد الغزي، وعلى مدى الأسابيع الثلاثة، هناك من أبناء غزة من بكى حتى أبكى المليارات من بني البشر، ومنهم من نزف (على شاشات البث المباشر) حتى أدمى قلوب الملايين التي أخذت تزيغ بنظرها في كل الاتجاهات من هول المشهد.. ولا يمكن لأحد أن ينسى الجثامين وهي مسجاة يتوازى فيها الحفيد والجد والأب والأم وبقية أفراد الأسرة.. يا للهول..
ذُبِحت غزة بطريقة البث المباشر؛ فالعالم كله شاهد، مباشرة، ما جرى بلا رتوش أو تجميل للمشهد من مخرج ما.. وأن الأبطال ليسوا ممثلين، قد يعودون لحياته الطبيعية بعد التصوير، ولكنهم أصبحوا "أحياء عند ربهم يرزقون".. وأن البنايات التي انهارت على رؤوس قاطنيها مصنعة من الباطون والحديد، وليست مجرد مجسمات لاستكمال المشهد.
لقد جرى في غزة ما لا يخطر على بال بشر.. ففي هذا الجزء الغالي من الوطن جريحٌ يضمد جريح، ومشردٌ يؤوي مشرد، وشهيدٌ يواري شهيد.. طفل يحتضن طفل، طفل يتبنى شقيقه.. عجوز يفتش بين الأنقاض على جثامين كل من أنجب طوال عمره.. جَنينٌ ينفصل عن أمه، ورضيع فقد الثدي والأم والأب والجد والجدة..
يا للهول.. إنها الحرب المجنونة التي حولت غزة بإنسانها، وشجرها وحجرها إلى مختبر لاختبار أسلحةٍ تَفَتَّقَ عنها دماغُ كيميائيٍ بارعٍ سيتلقى الجوائز الكبرى على نتائج تجاربه تلك.. جديدها هو الفسفور الأبيض الذي يحرق كل ما يعترضه، ويخترق الجلد والعظم ليحفر النخاع.. أما المادة التي اختبرت عليها تلك الأسلحة فهي أطفال غزة ونساؤها وشيوخها، بل الأسر بكامل مكوناتها.. وأما مسرح الاختبار فهو أسِرَّة الأطفال، وغرف نوم الشيوخ، وصوامع العبادة والتعبد لله قاهر الغزاة والمغتَصِبين، والمطابخ التي يُطهى فيها ما يشبه الغذاء الصالح لبني البشر، والمستشفيات، والمدارس، والمؤسسات الدولية والانسانية.. كما استهدف ذلك السلاح كل ما يمكن أن يُبقي البشر على قيد الحياة من غذاء وماء.. هذا السلاح الذي حَيَّدَ دور الأدوية وفعاليتها؛ لأن الإصابات من النوع غير القابل للعلاج.
أهوال شيبت الرضيع، وأسمعت من به صمم، وأنطقت الأبكم، وجعلت الأطفال يتحدثون "قبل الأوان" ليقسموا الأيمان الغليظة على الانتقام ممن أصابهم برصاصه الأعمى الذي يتحرك في أجواء غزة بهدف القتل والقتل فقط..
أهوال لم تحرك أي ساكن في النظام العربي الرسمي.. أهوال واجهها حكامنا بمنتهى التعقل والعقلانية (!!).. أهوال واجهها حكامنا (بضبط!!) الأعصاب والإبقاء على السفير "الإسرائيلي" هانئاً مرتاحاً على أرضهم، (فالسلام!!) يستحق التضحية (!!).
بقي أن نقول لحكامنا ولصانعي القرار، على طول الوطن وعرضه، بأن العدوان قد امتد إلى أعماق الأرض.. إنه عدوان يستهدف الأموات كما استهدف الأحياء؛ فقد أخذ يصب جام حقده على المقابر.. كما أن المقابر لم تعد تتسع للجثامين التي تتزاحم في ثلاجات الموتى.. يا للهول..
هذه هي غزة التي لم ينبرِ من هذه الأمة، حتى اللحظة، قائد يلبي النداء.. إنها غزة التي حولتها الحرب الغبية-الجبانة إلى مكان غير آمن للعيش؛ ففيها ممنوع أن تعيش لأنك تشكل خطراً على الدولة العبرية!!.. وفيها ممنوع أن تموت لأن موتك يشكل خطراً على الدولة العبرية!!.. أما المسموح لك فستحدده القمة العربية القادمة عندما يكتمل النصاب، هذا النصاب الذي لن يكتمل إلا بأوامر عليا، تلك الأوامر التي لن تصدر إلا أن يقضى الله أمراً كان مفعولا..
بقلم: عزيز العصا/ نُشِر في صحيفة القدس بتاريخ 19/1/2009م صفحة 19
العبيدية، 15/1/2009م
لكي لا نغرق في الألم الذي تعلو أمواجه فوق الرؤوس، ولكي لا نتيه في دهاليز الحزن والأسى، ومن وسط ركام الضمير الآدمي أود الاشارة إلى ما يلي:
يقول ألوف بن في صحيفة هآرتس (ترجمة صحيفة القدس، 13/1/2009، ص15): "... اسرائيل لم تقرر بعد اذا كانت ستكون عضواً طبيعياً في الأسرة الدولية، وأن تدفع ثمن الطبيعية أو تبقى منعزلة في الخارج. هذه المعضلة بدأت تقريباً مع قيام الدولة وهي مستمرة منذئذ".
اعترف يوفال شتاينتس النائب الليكودي في هآرتس (ترجمة صحيفة القدس، 13/1/2009، ص14) بأن حماس قد شوشت الحياة في ثلثل الدولة وأدخلت ملين اسرائيلي إلى الملاجئ"
اعترف يوفال شتاينتس النائب الليكودي في هآرتس (ترجمة صحيفة القدس، 13/1/2009، ص14) بأن الردع الاسرائيلي قد انهار
إرسال تعليق Blogger Facebook