لا شك في أن الحديث عن أسرانا يعني الحديث عن الماضي والحاضر والمستقبل في آن معا. فكلما ذكرت أسيراً تجد نفسك أمام التاريخ القريب و/أو البعيد، فكل أسير هو تعبير حيٌ عن قصة صراع مع الاحتلال ترتبط به؛ فهو بطلها المباشر ووفقاً لتفاصيل تلك القصة قُضي عليه، بغير وجه حق، أن يُحرم من ممارسة إنسانيته التي فطره الله -جل شأنه- عليها.
أما الحاضر فتقرأه من خلال شموخهم، وعنفوانهم، وقدرتهم العالية على تجاوز الأسوار واختراق جدران الزنازين، تلك الجدران التي تعجز الأشعة السينية عن اختراقها، أي أن إرادة هؤلاء الأبطال هي الأقوى. والأسرى، فرادى و/أو مجتمعين هم تعبير حي عن واقع شعبهم، بل الأكثر قدرة على فهم هذا الواقع والتعبير عنه بأقصى درجات النضج والإدراك الدقيق لاحتياجات شعبهم.
وإنه ليس من قبيل الاستعراض أو الادعاء إذا ما قلنا بأن لأسرانا، من داخل زنازينهم، صولات وجولات، وبصمات واضحة في إدارة شأننا اليومي، على كافة الأصعدة بخاصة السياسية والاجتماعية منها، وأن لهم المهابة والاحترام والتقدير ذاته كما لو كانوا بيننا؛ فهم قادة حقيقيون لشعبهم أينما كانوا، ويشاركوننا في جميع المناسبات فيرفعون معنوياتنا كلما داهمتنا مصيبة أو فقدنا عزيز، ويضاعفون مشاعر الغبطة لدينا كلما مرت علينا مناسبة للفرح والسرور.
وأما المستقبل فمعياره الرئيسي هم أسرانا البواسل أيضاً، ولكي تتضح الفكرة أكثر، دعنا نطرح الأسئلة التالية: ما هو شكل الدولة الفلسطينية المنتظرة بدون نيل أسرانا حريتهم كاملة؟ من هم القادرون على إدارة دفة الدولة المنتظرة وحماية حدودها إذا لم يكونوا، هم أسرانا، حماتها الحقيقيون؟ من هي العقول القادرة على رسم ملامح المستقبل ما لم ترسمه عقول أسرانا، الذين يربضون خلف القضبان لأنهم حفروا بأظافرهم اسم فلسطين الدولة في صخور الوطن؟
إلى أن يُجاب على تلك الأسئلة وغيرها، ولكي لا نغرق في الخيال، ولنقترب أكثر من الواقع اليومي المُعاش، فلنتذكر جيداً، ولنعترف، بأننا أمام احتلال يمتلك من الذكاء والدهاء ما يجعله قادراًَ على فهم الأمور وفق الرؤية الموصوفة أعلاه. وبالتالي فإنني أعتقد بأن هذا الاحتلال قد توصل مبكراً إلى الإجابة على الأسئلة/التساؤلات المطروحة وأنه قد أدرك كذلك عمق الأثر الذي يحفره هؤلاء الأسرى في حياة شعبهم، الذي جعلوا من أجسادهم سُلماً تتسلقه الأجيال القادمة وصولاً إلى حرية تحفظ لهم كرامتهم وعزتهم.
لأن الاحتلال هو الآمر-الناهي، وهو صاحب السلطة والسطوة في كل شؤون الأسرى.. ولأن القوانين واللوائح والحقوق الممنوحة لبني البشر تمر بمرحلة "الفلترة الإسرائيلية" التي تمرر لنا ما يخدم "هوسها الأمني!!"، هذا الهوس الذي لا يُشبِعه شئ في هذا الكون، حتى لو تحول الشعب الفلسطيني بأكمله إلى جثث هامدة. ولأننا نمر في حالة الفرقة، والتشرذم، والضعف وافتقاد لعمقنا العربي والإسلامي القادر على أن يضئ لنا آخِرِ النفق.. ولأن منطق القوة، وليس قوة المنطق، هو السائد في هذا الكون.. ولأن "إسرائيل" تمتلك القوة المفرطة القادرة على استعمالها بالشكل الذي تريد وفي الوقت الذي تشاء.. ولأن القوة تتناسب عكسياً مع الأخلاق..
في ظل ذلك كله، فإننا نحن، نكاد نعيش حالة من التطبيع مع ما يجري بحق أسرانا، بأن نكتفي بالفرح عند خروج الأسير ونحتفل بعودته، ونطلق الزغاريد، ونرفع الرايات، والأعلام ونتبادل التهاني، ونتزاحم على أبواب بيته مهنئين مستبشرين بمستقبل واعدٍ له ولأسرته ولأبنائه الذين يبذلون الجهد الجهيد في التآلف مع الأب الطارئ الذي داهمهم دون سابق إنذار. فهذه التعبيرات هي رد الفعل الطبيعي لخروج الأسير وانضمامه إلى شعبه ومجتمعه وأسرته وعودته إلى مكانه لملء الفراغ الذي تركه كَلَبِنَةٍ مهمة في "مدماك" مجتمعه..
أما الجانب الآخر فيتعلق بالمخفي، والمخفي أعظم، وهو الوضع الصحي الدقيق للأسير. فالابتسامات التي يوزعها الأسير، والقبل الحارة التي يطبعها على جبين كل من يزوره مهنئاً ومرحباً، والعناق الطويل المفعم بالشوق الحقيقي والمحبة والتقدير العالي لزواره.. كل ذلك، وغيره، لا يعني أن وضعه الصحي على ما يُرام، بل يتطلب منا تصميم برنامج الاستقبال للأسير بحيث تكون الخطوة الأولى عرضه على طبيب متخصص لفحصه بدقة وتزويدنا بالمعلومات الأولية، لتشكل قاعدة للفحص المستمر والدائم مستقبلاً. وإذا قدر لك أن تتابع مسار الحياة اليومية لهؤلاء العائدين إلى حضن الوطن، فإنك ستجد أن لكلٍ منهم قصة تبدأ ولا تنتهي إلا بمصيره المحتوم وهو الموت المحقق.
وقد قدر لي أن أتابع واحدة من تلك الحالات، التي يصعب حصرها، وهو سليمان العصا، ذلك الشاب الذي فتح عينيه على الزنازين منذ العام 1997 لينتقل من سجنٍ إلى آخر، ولم ينعم بأي شكل من الراحة والدعة والطمأنينة. وبعد خروجه في العام 2003 أعيد للأسر مرة أخرى في العام 2006. وبعد 14 شهراً أُخرج من السجن (في العام 2007).
فرحت طفلته لاعتقادها بأن أباها قد أصبح ملكها منذ تلك اللحظة، وأنه سيحضر لها الـ "زاكي" كلما طلبته، واستعادت زوجته أنفاسها بعد عناء الانتظار الطويل.. أما والده ووالدته فقد رسما ملامح سيناريو التمتع بما بقي من العمر مع فلذة الكبد الذي انتظراه بفارغ الصبر. وأما الأهل والأحبة فقد فرحوا بالعائد من خلف القضبان ليملأ الفراغ الذي تركه منذ زمن فهو شاب ذكي، لبق، متفائل، مُحب، صاحب ابتسامة دائمة، وطني حتى العظم ويعشق الحرية والانطلاق نحو الحياة الأفضل.. وهكذا تحولق الجميع ورقصوا لسليمان، في جوٍ من الفرح والسرور، وابتدعت النسوة أغاني خاصة به لكي يوثقن لفرحتهن به كإبن وأخٍ وجار وابن عمومة.
أما سليمان فلم تكن حقيقة وضعه تسمح له بمجاملتهم ورد الجميل لهم، فقد بدأت آثار الزنازين الانفرادية والجماعية تظهر على صحته، وبدأت آثار الضغط النفسي والتجويع والترهيب تحفر في أعماقه، وبدأت خطط الاحتلال في تقويض همم الأسرى وإخراجهم من معادلة البناء والتنمية تؤتي أكلها مع سليمان.. حاول مقاومة الألم فلم يستطع، بذل الجهود الحثيثة في استئصال الوجع من أحشائه فلم يستطع.. ذهب إلى الأطباء من جميع التخصصات، متوسلاً لهم أن يخبروه عن اسم المرض الذي يحرمه من النوم، ويمنع معدته من استقبال أي نوع من الطعام أو الشراب فلم يستطيعوا..
احتار الأطباء، فالتفت كل منهم إلى الآخر، وهو يمرر ابتسامة مرة متسائلاً: ما الذي جرى لهذا الأسير خلال السنوات السبع التي قضاها وهو يُنقل من زنزانة إلى أخرى ومن عيادة طبية إلى أخرى(!!).. فخرجوا باستنتاج وحيد، وهو: أن سليمان مريض بمرض شديد الأثر، وأن أجهزة جسمه تتعطل الواحد تلو الآخر، وأما سبل العلاج فهي مغلقة.. إلى أن انتصف كانون الأول من العام 2009 حيث لقي سليمان ربه راضياً مرضياً، فبكته طفلتاه، وندبته زوجته، وثكلته أمه وارتدى القوم ثياب الحزن والألم على فراق الغالي الذي اغتيل في غفلة من الزمن.. وكل هؤلاء يشيرون إلى الاحتلال ودوره في مأساة سليمان الذي اختطف من بينهم ليعود إليهم، بعد 7 سنوات من الاعتقال، جثة هامدة.
لكي لا نغرق في الحزن والأسى والألم.. ولكي لا تمر مأساة فقيدنا دون استخلاص العبر.. ولكي تبقى الشعلة متقدة أمام رياح الاحتلال العاتية.. ولكي لا نؤخذ على حين غرة.. ولكي لا نستسلم للاحتلال ونعتبره قدر لا مفر منه.. ولكي توضع الأمور في نصابها بإجبار الاحتلال على التعامل مع أسرانا بمنحهم كامل الحقوق الانسانية.. لهذا ولغيره من الأسباب، نجد أنه لا بد من التحرك والعمل الجاد، بالتعاون مع المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية.
•فضح الممارسات الاحتلالية باختطاف المواطنين الآمنين من أحضان أسرهم، والذين يتم اختطافهم ليلياً، أما التهمة (!!) فهي مقاومة الاحتلال، وكأن الاحتلال شئ طبيعي في حياة الشعوب وعليها استيعابه والتعايش معه.
•التحرك الجاد، على المستويات الرسمية والشعبية، لتذكير أنفسنا وتذكير العالم أجمع بأن هناك الآلاف من شعبنا يفتقدون حريتهم، وأن المئات منهم يعانون من أمراض مزمنة بلا علاج. وأن الأسرى الآخرين يعانون من الضغوط النفسية، كما يعانون من الحرمان من أبسط مقومات حقوق الانسان المتعلقة بالمأكل (الذي يُقدَّمُ بارداً)، والملبس (في البرد وفي الحر) والمشرب والنظافة، والحرمان من التعليم، والحرمان من العبادة.. أضف إلى ذلك ما يتعلق بالبيئة، مثل: انتشار الحشرات، والنقص في الإضاءة وانعدام التهوية الكافية لبني البشر، والرطوبة التي تعاني منها أماكن الأسر.. وفوق هذا وغيره لنتصور أن المساحة التي يُسمح للأسير العيش فيها لا يمكن أن تصل المترين المربعين.
•ارتباطاً بما اكده التلفزيون الاسرائيلي من صحة التقرير الذي نشره صحفي سويدي حول سرقة الاعضاء من الشهداء الفلسطينيين، وزرعها في اجساد الجنود الاسرائيليين المصابين (عن شبكة معاً بتاريخ 19/12/2009م)، وما أشارت إليه الأخبار من قيام معهد الطب الشرعي في ابو كبير بسرقة اعضاء من جثامين شهداء فلسطينيين وزرعها في اجساد مرضى ومن بينهم جنود اسرائيليون، كقرنيات، وقطع جلد وعظام، فإن النتيجة الطبيعية تسوقنا إلى التشكيك في الأمانة العلمية لما يجري في عيادات السجون، كما تدفعنا إلى التساؤل عما يجري في تلك العيادات لدى مراجعة الأسرى المرضى.. وبدون تعليق، أو أي إضافات أو اجتهادات في الإجابة، نطرح السؤال التالي: هل أن الأطباء في العيادات أمناء على أسرانا المرضى؟!
إلى أن تجيب الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية والمحلية على هذا السؤال، فإنني أتوجه إلى وزارة شئون الأسرى والمحررين برفع وتيرة التعاطي مع الانعكاسات الصحية على الأسرى الذين يغادرون الأسر، بإلزام الأسرى المحررين بفحوصات دورية ودقيقة، تبدأ من لحظة استلامه من المعتقل وقبل وصوله لأهله وذويه، وتمتد لفترات طويلة. علماً بأننا نسجل لهذه الوزارة، الوطنية حتى النخاع، حرصها على تلبية جميع احتياجات الأسرى والمحررين بلا تمييز يذكر على أي خلفية سياسية أو اجتماعية أو غيرها.
عزيز العصا- نشر في القدس، بتاريخ: 29/12/2009، ص19
إرسال تعليق Blogger Facebook